على ضفاف الحروف … عينيّة الجواهري – الأربعين ١٤٣٩ﻫ – المجلس ١ Show Press Release (12 More Words) على ضفاف الحروف … عينيّة الجواهري – الأربعين 1439ﻫ – المجلس 1 صور OverlaysPreviousNext فيديو يوتيوب اوديو مطبوع Show Press Release (6٬136 More Words) مِنْ أَجْلِ ثَقَافَةٍ شِيعِيَّةٍ أَصِيلَة مِنْ أَجْلِ وَعْيً مَهْدَويٍّ رَاقْ على ضِفَاف الحرُوف عَينِيّة الجَواهرِي عبـدُ الحَليـم الغِـــزّي منشـــورات موقع القمر على ضِفَاف الحرُوف عَينِيّة الجَواهرِي يـــــوم الخميس بتاريخ: 19 صفر 1439 هـ الموافق: 9/11/ 2017 م يا زهـــراء بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم على ضِفَاف الحرُوف عينِيّة الجَواهرِي كلمة الشَّيخ عَبد الحَليم الغِزّي في أربعينية الإمام الحسين صلوات الله عليه هيئة زهرائيون/ السويد/ ستوكهولم شرح عينيّة الجواهري رباطُ الولايةِ والمودّة الصَّلاةُ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّد يا زهـــراء بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم سَلَامٌ عَلَى رَأسكَ الـمَرفُوعِ يَا حُسَين.. لوحةٌ من الأدب النثَّر وإعصارٌ من أعاصيرِ الوجدانِ يَتدافعُ مُتدفِّقاً مُستوسقاً تارةً، ومُضطرماً مُضطرباً تارةً أخرى، تلك هي عينيّة الجواهري آمنتُ بالحسين: فِداءٌ لِمثواكَ مِن مَضجعِ تنوَّر بِالأَبْلَجِ الأَرْوَعِ بِأعبقَ مِن نَفَحاتِ الجِنانِ رَوحاً ومن مِسكها أضوعِ ورعياً لِيومكَ يَوم الطفوفِ وَسقـــــــــياً لأرضــــــكَ من مَصــــــــــرعِ وَحُزناً عَليكَ بِحبسِ النُّفوسِ على نَهجك النِّيّر الـمَهيعِ وَصوناً لِمجدك من أن يُذالَ بِما أنت تأباهُ من مُبدَعِ فيا أيُّها الوِترُ في الخَالِدين فذَّاً إلى الآن لم يُشفعِ ويا عِظَة الطَّامِحينَ العِظَام لِلاهِين عَن غَدِهم قُنَّعِ تَعاليتَ من مُفزعٍ للحتوفِ وبُوركَ قبرُك مِن مَفزعِ تلوذُ الدُّهور فَمِن سُجَّدٍ على جانبيهِ ومن ركَّعِ شَممتُ ثَراك فَهَبَّ النَّسيم \ نَسيمُ الكَرامة من بلقعِ وعفَّرتُ خَدِّي بحيثُ استراحَ خَــــــــــــــدٌّ تَفـــــــــــــرّى ولم يَضـــــــرَعِ وَحيثُ سنابكُ خَيل الطُّغاةِ جَالَت عَليهِ ولم يَخشَعِ وَخِلتُ وقد طارت الذِّكرياتُ بروحي إلى عالمٍ أرفعِ وطُفتُ بِقبرك طوف الخيالِ بصومعةِ الـمُلهِم الـمُبدعِ كــــــــأنَّ يــــــــداً من وراء الضّــــــــــَريح حمراء مبتورة الإصبعِ تُمدُّ إلى عالمٍ بالخُنوعِ والضَّيم ذي شرقٍ مُترعِ تخبَّط في غابةٍ أطبقت على مُذئبٍ منه أو مُسبِعِ لِتُبدِل منهُ جَديب الضَّمير بآخر مُعشَوشَب مُمرعِ أيا حُسَين.. تمثَّلتُ يومك في خاطري ورَدَّدتُ صوتك في مَسمعِي أبا عبد الله.. تَعاليتَ من صاعقٍ يلتظي فإنْ تَدجُ داجيةٍ يَلمعِ تأرَّم حقداً على الصَّاعقاتِ لم تُنء ضَيراً ولم تنفعِ ولم تبذر الحبَّ إثر الهشيمِ وقد حرَّقتهُ ولم تزرَعِ ولم تُخلي أبراجها في السَّماءِ ولم تأتي أرضاً ولم تُدْقِعِ ولم تـــــــــقطع الشَّــــــــــر َّمــن جِذمــــــهِ وغِلَّ الضمائر لم تنزعِ ولم تصدم النَّاسَ فيما هُم عليهِ من الخُلق الأوضعِ تعاليتَ من فلكٍ قُطرهُ يدورُ على المحورِ الأوسعِ فيا ابن البتول وحسبي بها ضماناً على كُلِّ ما أدّعِي ويا ابن الَّتي لم يضع مثلها كمثلك حملاً ولم تُرضعِ ويا ابن البطينِ بلا بطنةٍ ويا ابن الفتى الحاسر الأنزعِ ويا غُصن هاشم لم ينفتح بأزهر منك ولم يُفرعِ ويا وَاصلاً من نشيد الخلودِ ختام القصيدة بالمطلعِ يسيرُ الورى بركابِ الزَّمان من مُستقيمٍ ومن أظلعِ وأنت أنت تُسَيِّرُ ركب الخلود ما تستجدَّ له يتبعِ تَمثَّلتُ يومك في خاطري وردَّدتُ صوتك في مسمعي ومَحَّصتُ أمرك لم ارتهب بنقل الرِّواة ولم أُخدعِ أبا عبد الله.. وقُلتُ لعلَّ دَويَّ السِّنين بأصداء حادثك الـمُفجِعِ وما رَتَّل المخلصون الدُّعاة من مُرسِلِين ومن سُجَّعِ ومِن ناثراتٍ عليك المساء والصُّبح بالشَّعر والأدمعِ لعلَّ السِّياسة فيما جنت على لاصقٍ بِك أو مُدَّعِ وتشـــــــــريــــدها كُـــــلّ مــــن يـــــــدّ لي بحبلٍ لأهليك أو مقطعِ لعلَّ لِذاكَ وكَونِ الشَّجي وَلُوعاً بِكُلِّ شجٍ مُولَعِ يداً في اصطباغِ حديث الحُسين بلون أريد له ممتعِ وكانت ولَمَّا تزل برزةً يدُ الواثقِ الـمُلجأِ الألـمعِي صَنَاعاً متى ما تُرد خُطَّةً وكيف ومهما تُرد تصنعِ وَلَمَّا أزحتُ طِلاء القُرونِ وستر الخداع عن المخدعِ أُريدُ الحقيقة في ذاتها بغير الطبيعة لم تُطبعِ وجدتُك في صورةٍ لم أُرَع بأعظَم منها ولا أروعِ وماذا أروع من أن يكون لحمك وقفاً على المبضعِ وأن تتَّقي دون ما ترتئي ضَميــــــــــرك بالأُسَّـــــــلِ الشُــــــــــــــرَّعِ وأن تُطعم الموت خير البنينِ من الأكهلين إلى الرُضَّعِ وخير بني الأُمِّ من هاشمٍ وخير بني الأَبِ من تُبَّعِ وخيرَ الصِّحابِ بِخير الصُّدورِ كانوا وقاءَك والأذرعِ وقدَّستُ ذكراك لم أنتحل ثياب التُقاةِ ولم أدَّعِ تقحَّمتَ صدري وريبُ الشُّكوك يضجُّ بِجدرانهِ الأربعِ وران سحابٌ صفيقُ الحجاب عليَّ من القلقِ الـمُفزعِ وهبَّت رياحٌ من الطيّباتِ والطيّبين ولم يُقشعِ إذا ما تزحزح عن موضعٍ تأبَّى وعاد إلى موضعِ وجاز بي الشَّكُّ فيما مع الجدودِ إلى الشَّكِّ فيما معي إلى أن أقمتُ عليه الدَّليل من مبدإٍ بدمٍ مُشبَعِ فأسلم طوعاً إليك القياد وأعطاكَ إذعانة الـمُهطعِ فنوَّرت ما اظلمّ من فِكرتي وقوَّمت ما اعوجّ من أضلعي وآمنتُ إيمان من لا يرى سوى العقل في الشَّكِّ من مرجعِ بأنَّ الإباء ووحي السَّماء وفيض النُبُوَّة من منبعِ تجمَّع في جوهرٍ خالصٍ تنزَّه عن عرض المطمعِ فِداءٌ.. فداءٌ لمثواك من مضجعِ.. عينيّة الجواهري الَّتي أُحبُّ أن أصفها دائماً بالعصماء الَّتي لا أُخت لها، الَّذي حدا بي أن أقرأ هذه القصيدة في هذا المجلس أسئلةٌ عديدةٌ وردتني على إيميل البرنامج الَّذي كُنت أُقدِّمه على شاشة القمر في الأيَّام الماضية: (سؤالك على شاشة القمر) وردتني أسئلةٌ عديدة تطلب منّي أن أُبيّن معاني هذه القصيدة. سأحاول أن أشرح مضامين هذه القصيدة بشكلٍ مختصر، بشكلٍ مُوجز وسريع في هذه اللَّيلة أتناول شطراً منها وفي الليلة الآتية أتناول الشَّطر المتبقّي من هذه القصيدة. في البدايةِ لابُدَّ أن أُشير إلى نُقطةٍ مهمّةٍ: حينما يشرح شارحٌ قصيدةً من القصائد هو لا يعلم بالضَّبط ماذا يريدُ الشاعر أن يقول، فالمعنى في قلب الشَّاعر كما يقولون، ولكن هناك معنىً إجمالي يظهرُ من القصيدة، هو هذا الَّذي سأشير إليه وربَّما يدفعني ذلك إلى إضافة بعض المطالب بشكلٍ مُوجز رُبَّما لا يقصدها الشَّاعر ورُبَّما يقصدُ الشَّاعرُ شيئاً آخَر. حادثةٌ طريفةٌ تُنقَل عن الشَّاعر أبي نؤاس أنَّه دخل في يومٍ من الأيَّام إلى أحد المساجد فوجد حَلقَة درسٍ، حَلقَة أو حَلَقَة درس، رأى شيخاً يُدرِّس مجموعةً من التلاميذ، يُدرِّسهم درساً في البلاغة وفي الأدب وقد أخذ أبياتاً من قصيدةٍ لأبي نُؤاس وبدأ يشرحُ هذه الأبيات، فكان يقول لهم إنَّ أبا نؤاس يقصد هذا المعنى، وإنَّ أبا نؤاس لا يقصدُ ذلك المعنى، وإنَّما أراد هذا المعنى للسبب الفلاني، ولم يرد هذا المعنى للسبب الفلاني، أبو نؤاس جلس بالقرب منهم يستمع، بعد ذلك قام إلى هذا الشَّيخ وقال: هذه الأبيات لأبي نؤاس؟ قال نعم، قال: أتعرف أبا نؤاس؟ قال: لا، قال: إذاً كيف عرفتَ أنَّ أبا نؤاس يقصد هذا المعنى ولا يقصد ذلك المعنى؟ فدخل معه هذا الشَّيخ في جدل، قال: لا هو يقصده بدليل كذا وكذا ولا يقصد هذا بدليل كذا وكذا، قال: يا عبد الله أنا أبو نؤاس وهذه الأبيات حين قلتها كنت سكراناً لا أدري ما قلت، هذه المعاني الَّتي أنت نسبتها إليَّ أنا أصلاً لا أعرفها، شعرٌ جاء على لساني فقلتهُ. فحينما تُشرَح القصائد ليس بالضَّرورة أنَّ الشَّاعر يريد هذه المعاني، وإنَّما الشَّارح يُسقِطُ هذه الاسقاطات على القصيدة، أنا هنا لا أريد أن أشرح القصيدة بشكلٍ دقيق وواسع وأُشير إلى النكات البلاغيّة بحسب الاصطلاحات الرَّسمية المتعارفة بين المختصّين وإنَّما أُبيِّن معناها بشكل مُختصر، الكلمات الموجودة في هذه القصيدة معانيها غير واضحة فأُبيِّن المعاني اللغويّة للأبيات، بشكل مُجمل أشير إلى القصيدة. وفي الحقيقة أحد الدوافع الَّتي تدفعني إلى ذلك حين أستمع إلى الخطباء إن كان في الحسينيّات في الأيَّام الماضية في السنين الماضية أو الآن من خلال الفضائيّات فحينما يقرأون القصيدة قطعاً لا يقرأونها بنصٍّ كامل كما قرأتُها عليكم الآن، هذا هو النَّصّ الكامل للقصيدة الَّذي قرأتهُ، قطعاً يأخذون أبيات، حينما يأخذون أبيات، الأبيات غير مرتّبة وهذا يعني أنَّ الخطيب لا يفهم المعاني، لو كان يفهم المعاني لَما رتَّب الأبيات بهذه الطريقة، فلذا سَأُبَيِّن المعاني والمضامين بشكل موجز ومختصر. فِداءٌ لِمثواك من مضجعِ- الكلمات الواضحة لا تحتاج إلى أن أقف عليها لأنَّها واضحة لديكم وواضحة للَّذين قد يتابعون هذا الحديث عبر التلفزيون. فِداءٌ لِمثواكَ من مضجعِ- المثوى هو المكان الَّذي يثوي إليه الإنسان، ويثوي إليه؛ يعود إليه كي يستقرّ فيه، يقال فلان ثاوي في هذا المكان؛ أيْ مستقرّ في هذا المكان، والمضجع هو المكانُ الَّذي يضطجعُ فيه الإنسان، هو المكان الَّذي ينام فيه الإنسان. فِداءٌ لِمثواكَ مِن مَضجعِ تنوَّر بِالأَبْلَجِ الأَرْوَعِ تنوَّر هُنا ليس من النور وإنَّما من النَّور يعني الورود، النَّور هو الورد، بقرينة البيت الَّذي يأتي بعده: بأعبق، العبق هو الرائحة الطيّبة، فالنَّور ليس له رائحة طيّبة. بِأعبقَ مِن نَفَحاتِ الجِنانِ رَوحاً ومن مِسكها أضوعِ فهناك عبق وهناك مسك يضوع، هناك رائحة فهذه الرائحة لا تأتي من النور وإنَّما من النَّور ومن النوّار، في لغة العرب النَّور هو الورد، والعرب تُطلقه على الورد الَّذي يُزهِرُ بشكلٍ طبيعيّ لا يأتي زارع فيزرعهُ، يُقال تنوَّرت الأرض؛ أي أعشبت وخرج فيها الزَّهر والورد، الورد الطبيعي، وفي الغالب يُستَعمَل في الورد الأبيض، في الورد الأبيض الَّذي ينبت مع الأعشاب في فصل الربيع. وأمَّا النَّوَّار فالنَّوَّار الثِّمار بشكل عام، يقال هذه الشجرة تنوَّرت وخرج نوَّارُها؛ يعني خرج ثمارها من أكمامها. فِداءٌ لِمثواكَ مِن مَضجعِ تنوَّر بِالأَبْلَجِ الأَرْوَعِ الأبلج في لغة العرب هو صاحبُ الجبين الواسع المشرق، هو هذا الَّذي يُقال له أبلج، ويُقال أبلج للَّذي لا تنعقد حاجباه، هناك من النَّاسِ من تنعقدُ حواجبهم، يعني تلتقي، يلتقي الحاجبان، الَّذي لا يلتقي حاجباه هو هذا الَّذي يُقال لهُ الأبلج، فصاحب الجبين الواسع المزهر الأبيض الَّذي لا تنعقد حاجباه يُقال لهُ الأبلج. تنوّر بالأبلجِ الأروعِ- وأمّا الأروع، الأروع من الرَّائع، والرائع والأروعُ هو حسن الجسمِ وحسنُ الوجهِ وحسن الشَّعرِ ولهُ مهابةٌ بين النَّاس وبين قومهِ، هو هذا الَّذي يُطلِقُ العرب عليه هذا الوصف: الأروع. فداءٌ لِمثواكَ من مضْجَعِ- الشَّاعر هنا، وأنا أقول الشَّاعر هنا لأنَّ هذا هو قول الشَّاعر ليس بالضَّرورة أن يقصد هذا المعنى بالضَّبط ولكن هذا الَّذي يظهر من التراكيب الأدبيّة الموجودة في هذه القصيدة، الشَّاعر هنا يجعل نفسه فداءاً لهذا المثوى، لهذه الأرض الَّتي نام فيها الحسين، لهذه الأرض الَّتي استقرَّ فيها الحُسَين، “فداءٌ” مقصود الشَّاعر أنا فداءٌ، أنا أفديك، أنا فداءٌ لهذا المثوى، لماذا؟ لأنَّ هذا المثوى تنوَّر بالأبلج الأروعِ، فهذا الأبلج الأروع الَّذي ثوى في هذا المكان جعل هذا المكان مُزهراً، جعل هذا المكان مُورِداً، وهنا لا يتحدَّث عن الأزهارِ وعن الورود بهذا المعنى الحسّي وإنَّما يتحدَّث عن معنىً حقيقيّ للأزهارِ وللورود، أزهرت حقيقة الورود في هذا المكان حين ثوى فيه هذا الأبلجُ الأروع. فِداءٌ لِمثواكَ مِن مَضجعِ تنوَّر بِالأَبْلَجِ الأَرْوَعِ بأعبقَ من نفحات الجنان- هذه الورود والأزاهير فاحت روائحها وعطورها بأعبق، العبق هو طيبُ الرائحة. بأعبق من نفحات الجنان روحاً- والرَّوح هو ارتياح النَّفس وارتياحُ الذَّاتِ إمَّا لنسيمٍ عذبٍ قارب ذلك الإنسان وإمَّا لرائحةٍ طيّبةٍ وإمَّا لطهارة مكانٍ ونظافتهِ وإمَّا لجمالٍ ولحُسنٍ في ذلك المكان أحاط به، مثلما جاء التعبير في القُرآن في سورة الواقعة: (روحٌ وريحان) فالروح هو حالة الارتياح الناشئة من روائح ذكيّة طيّبة من نسيمٍ طيّبٍ أحاط بالإنسان. بِأعبقَ مِن نَفَحاتِ الجِنانِ رَوحاً ومن مِسكها أضوعِ وأمَّا المسك فهو معروفٌ، المسكُ في أصلهِ هو الطيبُ الَّذي يُستَخرَجُ من نافجة الغزال، هناك نوع من أنواع الغزلان وليس كُلّ الغزلان، هناك نوع من أنواع الغزلان يُسمَّى بغزال المسك، في جانبٍ من بدنه توجد نافجة يمسكون بالغزال وهو حي يفتحون هذا المكان يُخرجون النافجة وهذه النافجة مشتملة على المسك، هو دم، هو نوع من أنواع الدم وهي أذكى الروائح قديماً ولربّما حتَّى في زماننا هذا لا توجد رائحة أذكى من رائحة المسك الطبيعي المستخرج من الغزال. ومن مسكها أضوع- وضاع المسك يعني انتشر، إنتشر في المكان ووصل إلى الخياشيم، وصل إلى الآناف. فِداءٌ لِمثواكَ مِن مَضجعِ تنوَّر بِالأَبْلَجِ الأَرْوَعِ بِأعبقَ مِن نَفَحاتِ الجِنانِ رَوحاً ومن مِسكها أضوعِ هذان البيتان يتحدَّث فيهما الشاعر عن كربلاء، عن الطفوف. ورعياً ليومك يوم الطفوف- هذه “رعياً” في لغة العرب، أنا لا أريد أن أدخلكم في مسائل النحو وتفاصيل البلاغة ولكن في بعض الأحيان لا يمكن أن يتبيّن المعنى إلَّا من طرح هذه المسائل، “رعياً” هذه مفعول مُطلَق، والمفعول المطلق يمكن أن يُحذَف الفعل ويقوم مقام الفعل يعني هذه الجملة هكذا تُقدَّر: (وإنّي أُراعي رعياً ليومك يوم الطفوف) فرعياً هنا بمثابة فعل، يعني أراعي، إنَّني أراعي، عندي رعايةٌ ليومك، ما هي هذه الرعاية؟ ورعياً ليومك يوم الطفوف- أمَّا الطفوف فهو إسمٌ واضح وهو إسم الغاضريّات، إسم كربلاء، ورعياً ليومك يوم الطفوف، المراد من الرّعاية هو حفظُ هذا اليوم. وسقياً لأرضك من مصرعِ- سقياً؛ أنَّني أسقي أرضك ومصرعك سقياً، نفس الشيء هذا مفعول مطلق، وسقياً لأرضك من مصرعِ، المصرع هو المكان الَّذي يُصرَعُ فيه الإنسان، ويُصرع الإنسان في مكان؛ يُقتَل، وهذه واضحة في كلمات النَّبيّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم حين يُخاطب العترة الطاهرة ويُحدِّثهم أنَّ مصارعهم شتّى، ومن خلال هذه الكلمة، فقط من خلال هذه الكلمة، هذه الكلمة وردت في كتبنا وفي كتب المخالفين، من خلال هذه الكلمة نُثبِت أنَّ الزَّهراء قُتِلَت، هذهِ الكلمة دلالة واضحة على أنَّ الزَّهراء قُتلت، لأنَّ النَّبيّ خاطب العترة الطاهرة أنَّ مصارعكم شتّى والزَّهراء سيّدة العترة، مصارع يعني الأماكن الَّتي يُقتَلُ فيها الإنسان، مصرع مكان يُقتل فيه الإنسان. ورعياً لِيومكَ يَوم الطفوفِ وَســـــــــقياً لأرضـــــــكَ من مَصـــــــــــرعِ وهذه التعابير “سقياً” باعتبار أنَّ السقي من علامات الخير للأرض، ولذلك في الأشعار العربيّة دائماً يَرد هذا المعنى، أنا لا أريد أن أستشهد بأشعار وأبيات ويطول المقام، موجود بكثرة في الشعر العربيّ دائماً الشعراء يذكرون مسألة أنَّ الأرض تُسقى إشارة إلى التفاؤل، إشارة إلى الخير. ورعياً لِيومكَ يَوم الطفوفِ وَســــــقياً لأرضـــــــكَ من مَصــــــــــــرعِ وحُزناً عليك بحبس النفوس- الشعراء يقولون ما لا يفعلون، وإلَّا يعني هذا المعنى أين والجواهري أين في حياته الواقعيّة؟! ولكن الشعراء يقولون ما لا يفعلون. وَحُزناً عَليكَ بِحبسِ النُّفوسِ على نَهجك النِّيرِّ الـمَهيعِ أنَّ الحزن هكذا يكون بحبسِ النُّفوس، بحبس النُّفوس؛ يعني بضبطها، بإيقافها على نهجك، في أحد مجالس الفاتحة في دمشق مجلس فاتحة لعائلة من العوائل لأُسرة من الأسر عندهم ميّت أقاموا له مجلس فاتحة ويبدو أنَّ الجواهري كانت له صلة بهم فكان حاضراً في مجلس الفاتحة في دمشق وصعد الخطيب كما هو متعارف في مجالس الفاتحة يؤتى بخطيب حُسينيّ والخطيب من دون قصدٍ اقتطع أبياتاً من عينيّة الجواهري فبعض الجُلَّاس سألوا الجواهري قالوا له: أنت كتبت فقط هذه القصيدة يتيمة لماذا لم تثنِّ بقصيدة ثانية؟ قال هي حالة مرَّة جاءتني وما تكرَّرت، حالة مرَّة جاءتني هذه الحالة سيطرت عَلَيَّ، الَّذين يكتبون الشّعر يعرفون هذه القضيَّة مثلما كان العرب يسمّونه بشيطان الشعر، يقولون فلان اعتراه شيطان الشعر، حالة اعترتني وما تكرّرت هذه الحالة فكتبتُ هذه القصيدة. وَحُزناً عَليكَ بِحبسِ النُّفوسِ على نَهجك النِّيّر الـمَهيعِ النَّهجُ النيّر- النهج هو الطريق، النَّهج هو السبيل، ونهج في هذا النَّهج؛ أي سار فيه، أمَّا النَيِّر فهو الواضح الَّذي لا يحتاج إلى إيضاح، يعني أنَّ الطريق يأخذك بنفسه، لا تحتاج إلى علامات، هذا الطريق مضمون، هو هذا النهجُ النيّر. على نهجك النيِّر المهيعِ- والمهيع هو نفس معنى النيّر وإنَّما هنا تأكيد، المهيع هو الواضح، النيّر هو البيّن المشرق وأمّا المهيع فهو الواضح. وَحُزناً عَليكَ بِحبسِ النُّفوسِ على نَهجك النِّيّرِ الـمَهيعِ وصوناً لِمجدك من أن يُذال- يُذال؛ يُهان، صوناً؛ أي وأنَّني أصونُ مجدك صوناً، أيضاً مفعول مطلق هنا، أو يقال له مصدر ينوب مناب الفعل، نفس المعنى. وَصوناً لِمجدك من أن يُذالَ بِما أنت تأباهُ من مُبدَعِ يغلب على ظنّي هو يشير إلى الاختلافات الَّتي حدثت آنذاك في النَّجف وكربلاء والبصرة، القصيدة هذه نظمها الجواهري سنة 1947 وبالضَّبط في تلك السنين كان هناك صراع داخل الوسط الشّيعيّ بخصوص قضيَّة الشعائر الحسينيَّة فهناك مجاميع تُدافع عن الشعائر الحُسينيَّة، هناك مجاميع كانت ترفض الشَّعائر الحُسينيَّة، حتَّى قُسِّم النَّاس في النَّجف وفي كربلاء وفي البصرة إلى حزبين: الحزب العلويّ والحزب الأمَوي، والقصّة لها تفصيل، أنا الآن لا أريد أن أخوض في التأريخ، والحزبُ العلويّ له مراجعهُ وله خطباؤه وشعراؤه، والحزب الأمَوي له مراجعه من كبار المراجع، له مراجعهُ وخطباؤه، قصّة طويلة، أنا لا أريد الخوض في هذه القضيَّة، ولكن يبدو لي أنَّه يُشير إلى هذه القضيَّة فهو من المجموعة الَّتي تُعارض الشَّعائر الحُسينيَّة، يبدو هكذا لأنَّه هكذا يقول: وَصوناً لِمجدك من أن يُذالَ بِما أنت تأباهُ من مُبدَعِ باعتبار هذه بدع يقولون عنها، باعتبار هذه بدع مُبدَعة وإلَّا لا معنى للبيت، لا أجدُ معنى للبيت في سياق القصيدة، إلَّا إذا أردت أن أتكلَّف وأقول لا هو لا يقصد هذا المعنى، يقصد المعاني الأخرى، ولكن هذا خلاف الواقع، لأنَّنا إذا أردنا أن ندرس تأريخ القصيدة، تأريخ الواقع الشيعي، هو الَّذي كان موجوداً آنذاك. وصوناً لمجدك من أن يُذال- إلَّا أن يكون المقصود أنَّه يُريد أن يقول أنّي أصون مجدك مثلاً عن الـمُفتريات الموجودة في الكتب، إلَّا إذا كان يقصد هذا المعنى يمكن، يمكن أن يكون هذا. وَصوناً لِمجدك من أن يُذالَ بِما أنت تأباهُ من مُبدَعِ مُبدَع يعني من البدعة. هذه الأبيات بمثابة فاتحة للقصيدة، الشَّاعر هنا يتحدَّث عن موقفهِ أمام سيّد الشُّهداء وعن موقفهِ وهو في كربلاء، والقصيدة قُرِئت في كربلاء أساساً هذه القصيدة حين نظمها الجواهري قرأها في حفل في كربلاء، ألقاها في كربلاء. فيا أيُّها الوِترُ في الخَالِدين فذَّاً إلى الآن لم يُشفعِ أنا لا أريد أن أذهب إلى ما في الرِّوايات فالجواهري أبعد ما يكون عن الرِّوايات، لا أذهب إلى معنى ما جاء في سورة الفجر والشَّفع والوتر وفُسِّرت في سيّد الشُّهداء، فُسِّرت في أمير المؤمنين، لا أريد أن أذهب إلى هناك، الجواهري قطعاً لا علاقة له بالرِّوايات وإنَّما يتحدَّث عن المعنى اللغويّ، فالوتر هو المفرد والشَّفع هو الزَّوج، الشَّفع الاثنان والوتر هو المفرد، وإنَّما يقصد المعنى اللغويّ، يقصد المعنى الأدبي. فيا أيُّها الوِترُ في الخَالِدين فذَّاً إلى الآن لم يُشفعِ نأخذ المعنى بالإجمال فهو جميل أمَّا بالدقَّة إذا أردنا أن نأخذ المعنى بالدقَّة العقائديّة فما لآخِرهم لأوَّلهم، وما لأوَّلهم لآخِرهم إذا أردنا أن نأخذ المعنى بمنطق الزِّيارة الجامعة الكبيرة فهم نورٌ واحد، طينةٌ واحدة، ولكن المعنى الإجمالي معنى شعري إجمالي في باب المديح، إذا أردنا أن نراعي الدقَّة فالكلام لا يكون صحيحاً ولكن لأنَّه قول شاعر، البيت جميل جدّاً ويُؤخذ في هذا السياق الشعري. فيا أيُّها الوِترُ في الخَالِدين فذَّاً إلى الآن لم يُشفعِ ويا عِظَة الطَّامِحينَ العِظَام لِلَاهِين عَن غَدِهم قُنَّعِ “العظة” معناها واضح: الموعظة، والموعظة تعني العبرة. ويا عظة الطامحين- الطامحون هم الَّذين ينظرون إلى العلوّ أو ينظرون إلى الشيء البعيد، وطَمَحَ ببصرهِ إمَّا أن رفعهُ إلى الأعلى وإمَّا أن نظر إلى أبعد نقطةٍ يمكن أن يراها. ويا عظة الطَّامحين العظام- الَّذين يملكون مشاريع كبيرة وأهداف كبيرة هؤلاء هم الطامحون العظام. ويا عِظَة الطَّامِحينَ العِظَام لِلَاهِين عَن غَدِهم قُنَّعِ “ويا عظة الطامحين العظام” هذه العظة لِمن تُوجَّه؟ مُوجّهة لهؤلاء اللاهين، للاهين عن غدهم، هؤلاء الَّذين يشتغلون بالسفاسف، الَّذين لا يملكون بُعد نظر، من الَّذي يلهو عن غدهِ، يلهو عن عاقبتهِ؟ أنا قلتُ: هذا الكلام لا علاقةَ له بسيرة الجواهري، وإلَّا إذا أردنا أن نطبّق هذه المعاني على الجواهري في البُعد الشخصيّ الكلام يكون بشكل آخَر، ولكن هذه معاني، هذه حكمة والحكمة ضالَّة المؤمن أنّى وجدها أخذها. ويا عِظَة الطَّامِحينَ العِظَام لِلَاهِين عَن غَدِهم قُنَّعِ الَّذي يلهو عن غدهِ لا ينظر إلى غدهِ، لا يملك نظراً، أساس الدينِ إذا أردنا أن نتحدَّث عن الدّين بعيداً عن الشعر، (رَحِم اللهُ امرأ عَرف مِن أَين وَإِلى أَين) عرف من أين وإلى أين فهو لا يلهو عن غدهِ. للاهين عن غدهم قُنَّعِ- القُنَّع جمعٌ لقانع، فهؤلاءِ مُقتنعون بما عندهم، مشغولون بالَّذي بين أيديهم، لا يبحثون عمَّا هو أبعد من ذلك، هم قانعون، وقد يشتمل المعنى “القُنَّع” من التقنُّع فهم مُقنَّعون، فهم مُقنَّعون لا يرون شيئاً، قنَّعوا أنفسهم بسفاسفهم وجهالاتهم، بقلَّة همّتهم، بضعفِ إرادتهم. ويا عِظَة الطَّامِحينَ العِظَام لِلَاهِين عَن غَدِهم قُنَّعِ تعاليتَ من مُفزِعٍ للحتوف- الـمُفزِع هو المخيف، والحتوف جمع لحتف، والحتف هو الموت، ولكن إذا أردنا أن نُشخِّص المعنى بدقَّة: الحتف هو الموتُ الشَّديد، الموتُ المؤلم، الحتوف إشارة إلى الموت المؤلم. تَعاليتَ من مُفزعٍ للحتوفِ وبُوركَ قبرُك مِن مَفزعِ وهذا يُسمّى في البلاغة جناس، الكلمات نفس الألفاظ ولكن المعاني مختلفة، (مُفزِعٍ ومَفزَع) نفس الحروف، نوع من أنواع الجناس، وهذه مزوّقات شعريّة عادةً للتجميل، لتجميل النَّظم الشعري. تعاليت من مُفزعٍ للحتوفِ- فأنت تُخيفُها، تُخيفُ الحتوف. وبُورك قبرك من مفزعِ- يفزع إليه الخائفون ففي الوقت الَّذي أنت تُخيف الحتوف فإنَّ الخائفين يتقاطرون يتدافعون إلى مثواك العظيم هذا. تلوذُ الدُّهور فَمِن سُجَّدٍ على جانبيهِ ومن ركَّعِ قطعاً المراد من الدهور هنا ليس الدَّهر الَّذي هو الزَّمان وإنَّما المراد من الدُّهورِ المراد أبناء الدَّهر أبناءُ الزَّمان، وإلَّا فالزَّمانُ ناشئٌ من حركة الأفلاك، الزَّمان من المعاني الانتزاعيّة الَّتي تُنتزع من حركة الأفلاك، وإنَّما الَّذين يصنعون الأفاعيل ويصنعون الحركات ويصنعون الأحداث هم النَّاس. تلوذ الدهور- الدهور بأحداثها، وأحداثُ الدهور بصُنَّاعها، وصُنَّاعها هم البشر، هم النَّاس. تلوذُ الدُّهور فَمِن سُجَّدٍ على جانبيهِ ومن ركَّعِ شممتُ ثراك فهبَّ النَّسيم- الثَّرى في لغة العرب تُطلَقُ على التراب بشكل عام وإذا أردنا أن نُدقِّق في اللفظة فإنَّ الثَّرى تُقال على التراب النَّدي الَّذي هو تحت الطبقة الأولى من التراب، إذا أردنا أن نُشخِّص المعنى بالدقَّة، هُناك ما يُسمَّى بعلم اللغة فهو الَّذي يعطي المعاني الإجماليّة، وهناك ما يسمّى بفقه اللغة والذي يعطي معاني تفصيليّة، وفقاً للغة فالثرى هو هذا التراب، أمَّا إذا أردنا أن نتفقَّه في فقه اللغة فإنَّ الثَّرى هو التراب النَّدي الَّذي هو تحت الطبقة الأولى، ومن الثريّا إلى الثَّرى يقصدون العرب بهذا المعنى التراب الندي. شممتُ ثراكَ فهبَّ النَّسيم- هذا النَّسيم هبّ من نفس الثرى، من نفس ثراك، فهبَّ النَّسيم ولكن أيُّ نسيمٍ هذا؟ هل هو نسيمٌ شماليٌّ؟ فهبَّ النَّسيمُ نسيمُ الكرامة من بلقع- أمَّا البلقع فهي الأرض الخالية، الأرض الخالية الَّتي ليس فيها شيء، لا فيها أعشاب، لا فيها حشرات، كلّ شيء لا يوجد فيها، لا توجد فيها أيَّة حركة، فلذلك العرب ماذا تقول؟ تقول من أنَّ هجم الموتُ على القبيلة الفلانيّة فترك بيوتهم بلاقع لا أثرَ فيها، لا حركة فيها، أو أنَّ الظلم يجعل من الديار بلاقع يعني أراضي خربة خالية لا شيء فيها. شَممتُ ثَراك فَهَبَّ النَّسيم \ نَسيمُ الكَرامة من بلقعِ لرُبَّما الشَّاعر يريد أن يقول من أنَّ كلَّ شيءٍ سِواك فهو بلقع، ولا يوجد أيّ أثر حسنٍ جميل في كُلّ ما سِواك، فلا كرامة في كُلِّ هذه البلاقع، نسيم الكرامة جاء من ثراك فقط، لرُبَّما أراد الشَّاعر هذا. ولربَّما أراد الشَّاعرُ أن يقول من أنَّ نسيم الكرامة جاء واضحاً جدّاً لأنَّه لا توجد رائحة أخرى فالأرض خالية ليس فيها شيء، فما شممتُ إلَّا نسيم الكرامة هذا. شَممتُ ثَراك فَهَبَّ النَّسيم \ نَسيمُ الكَرامة من بلقعِ وعفَّرتُ خَدِّي بحيثُ استراحَ خَــــــــــدٌّ تَـــــــــــفرّى ولم يَضــــــــــــرَعِ ولا أعتقد أنَّ الشَّاعر أيضاً يتحدَّثُ عن آداب الزيارة وإنَّما يتحدَّثُ عن انبهارهِ بهذا الطود الأشم ولذا يتهاوى على ثراه، لا أعتقد أنَّ الشّاعر هنا يتحدّث عن آداب الزيارة ومن جملة آدابِ الزّيارة في رواياتنا وأحاديثنا هو أن يُقلّب الإنسانُ خدَّيه على القبرِ الشّريف، وأن تضع خدَّك على القبر وأن تُقلّب خدّيك، لا أعتقد أنَّ الجواهري يعبأ بهذه المعاني. وعفَّرتُ خدّي بحيثُ استراح خدٌّ تفرّى- وتفرَّى؛ تشقَّق، تفرَّى؛ سال دمهُ، تمزّق. وعفَّرتُ خَدِّي بحيثُ استراحَ خَــــــــــدٌّ تَــــــــــــفرّى ولم يَضــــــــــــرَعِ عندنا صورةٌ في أخبار المقتل الحُسينيّ من أنَّ سيّد الشُّهداء صنع له وسادةً من الرَّمل ووضع خدَّهُ الشَّريف عليها مستريحاً، لربَّما اقتنص الجواهري هذه الصورة. وعفَّرتُ خَدِّي بحيثُ استراحَ خَــــــــــدٌّ تَــــــــــــفرّى ولم يَضــــــــــــرَعِ لم يَضرَعِ- لم يُصبه الهوان، ولم يخضع. وحيث سنابكُ خيل الطغاةِ- السنابك هي الحوافر، وإذا أردنا أن نحدّد المعنى بالدقّة: سنابك الخيل هي النهايات الحادّة لحوافر الخيل، بالدقّة إذا أردنا أن نُحدِّدها فهي النهايات الحادّة في مقدَّم الحافر، النهاية الحادّة في مقدَّم حافر الفرس حافر الجواد يُقال لها السَّنابك، جمعٌ لسنبك، والكلمة ليست عربيّة. وحيث سنابكُ خيل الطغاةِ جالت عليه– جالت؛ أي غاديةً رائحة، وهم هكذا صنعوا بالحُسين، هؤلاء العشرة الَّذين انتدبهم ابنُ سعد هكذا صنعوا، أخذوا يروحون ويغدون ما بين غُدُوٍّ ورَواح على الجسد الشريف. وَحيثُ سنابكُ خَيل الطُّغاةِ جَالَت عَليهِ ولم يَخشَعِ وَخِلتُ وقد طارت الذِّكرياتُ بروحي إلى عالمٍ أرفعِ خِلتُ لُغويّاً من خال، وخال بمعنى حَسِب أو ظنّ أو زَعَم ولكنَّه يبدو هنا يشير إلى الخيال، يُشير إلى الخيال بقرينة البيت الَّذي بعد هذا البيت: (وطفت بقبرك طوف الخيال). وَخِلتُ وقد طارت الذِّكرياتُ بروحي إلى عالمٍ أرفعِ بعد هذه البيانات الَّتي تقدَّم ذكرها القصيدةُ إذا كانت قصيدةً لابُدَّ أن تشتمل على وحدةٍ موضوعيّة وإلَّا لا تُسمَّى قصيدة وإِنَّما قيل لها قصيدة، العرب تقول لسبعة أبيات فما فوق قصيدة، أقل من سبعة أبيات لا تُسمّيها العرب قصيدة، فيقولون إنَّ الشَّاعر في سبعة أبيات يستطيع أن يُبيّن مقصوده، أن يبيّن قصدهُ، وإنَّما يبيّن الشَّاعر مقصوده أو قصدهُ إذا كانت هناك وحدة موضوع في القصيدة، فبعد هذه المقدِّمات الشَّاعر يُريد أن يرسم هنا صورةً من وجدانهِ، من وجدانهِ الَّذي أطلق له العِنان في الخيال، كيف يستطيع الإنسان أن يتحرَّك في الخيال؟ لابُدَّ أن تكون عنده مفردات، وهذه المفردات يُمازج بينها، حينئذٍ يستطيع أن يرسم صورة في خيالهِ، فبعد كُلِّ هذه المفردات والمعطيات الشَّاعر هنا يجنح إلى خيالهِ: وَخِلتُ وقد طارت الذِّكرياتُ بروحي إلى عالمٍ أرفعِ وطُفتُ بِقبرك طوف الخيالِ بصومعةِ الـمُلهِم الـمُبدعِ أمَّا الصَّومعة فهي المكان الخاصّ، قد يكون خاصَّاً بالعبادة أو قد يكونُ خاصَّاً بأيِّ شيءٍ آخَر، أساساً كلمة الصومعة في لغة العرب كانت تُقال للمكان الَّذي تُحفظ فيه الحبوب، بالضَّبط السايلوا الآن في زماننا الأماكن الَّتي تُحفَظ فيها الحبوب يقال لها صوامع، لأنَّ هذه الأماكن عادةً ما تُوضَع فيها الحبوب وتُطيّن لئلّا تفسد الحبوب، حفاظاً عليها من الفساد فتُطيّن وتُغلق، فالأماكن المغلَقة هي هذه الصوامع فيُقال (صومعة) للمكان الَّذي يختلي فيه الإنسان لعبادته. وطُفتُ بِقبرك طوف الخيالِ بصومعةِ الـمُلهِم الـمُبدعِ الـمُلهم والـمُبدع هنا هو الحُسَين، والصومعة هو مزاره. وطُفتُ بِقبرك طوف الخيالِ بصومعةِ الـمُلهِم الـمُبدعِ كأنَّ يداً -هي يدُ الحسين- من وراء الضَّريح، والضَّريحُ هو القبر. كــــــــأنَّ يـــــــــداً مــــن وراء الضَّــــــريح حمراء مبتورة الإصبعِ تلك يدهُ، وذلك البدَوي الَّذي حدَّثَتنا كتب المقاتل عنه، بجدل، بجدل البدَوي هو الَّذي قطع خنصر الحُسين، خاتم الحسين كان في خنصرهِ وقد تجمَّد الدَّمُ عليه، حاول أن يُخرج الخاتم ما استطاع فأخرج خنجرهُ فقطع خنصر الحُسين، في الأخبار الَّتي تُحدِّثنا عن مجيء الإمام السجَّاد صلوات الله وسلامه عليه لدفن الأجساد الشَّريفة فبعد أن جمع جسد الحُسَين على بارية، على حصير الأسديون رأوا الإمام يبحث في الأرض، عن أيّ شيءٍ كان يبحث؟ كان يبحث عن خُنصرهِ الشَّريف، عن خنصر الإمام. كأنَّ يداً من وراءِ الضَّريحِ حمراء- حمراء لأنَّها تخضّبت بالدّماء، وسيّد الشُّهداء تخضّبت يدهُ بالدِّماء أكثر من مرّة. كــــــــأنَّ يــــــــــداً مــــن وراء الضَّــــــريح حمراء مبتورة الإصبعِ تُمدُّ إلى عالمٍ بالخنوع- الخنوع؛ المهانة والمذلَّة. تمدُّ إلى عالمٍ بالخُنوع والضَّيم- والضَّيم هو ما يصيبُ الإنسانِ من أذى الإذلال حينما يُذَلّ الإنسان. تُمدُّ إلى عالمٍ بالخُنوعِ والضَّيم ذي شرقٍ مُترعِ الشَّرَق؛ الغُصّة، الغُصَّة الَّتي تعترضُ في حلق الإنسان هو هذا الشَّرق، وأمَّا الـمُترع فهو المملوء، حينما تأخذُ قدحاً وتملأ هذا القدح بالماء إلى النِّهاية يُقال هذا قدحٌ مُترع، فقد أترع القدح؛ ملأه بالماء، بالشَّرابِ إلى نهايتهِ، ويُقال عن هذا النَّهر نهرٌ مُترع فقد فاض ماؤه على جانبيه. تُمدُّ إلى عالمٍ بالخنوع- هذه اليد الحمراء الَّتي بُتِر خُنصرها هذه اليد ممدودة إلى عالمٍ ما هو حالهُ؟ هذا العالم مُترع، مملوء، فاض خُنوعهُ، فاضت مَهانتهُ وفاض ضَيمهُ وفاضت ذِلَّتهُ إلى عالمٍ ذليل. تخبَّط في غابةٍ أطبقت- فهذا العالم يتخبَّط في غابةٍ، المتخبّط الَّذي يتعثّر يمنة ويسرة لا يدري إلى أين يتَّجه. تخبَّط في غابةٍ أطبقت على مُذئبٍ منه أو مُسبِعِ المكانُ المذئب الَّذي تكثُر فيها الذئاب، والمكان المسبع الَّذي تكثر فيه السباع. تخبَّط في غابةٍ أطبقت على مُذئبٍ منه أو مُسبِعِ لأيِّ شيءٍ؟ لِتبدل منه جديب الضَّمير- هذه الضمائر الميّتة، الجدب هو الحالة الَّتي تعتري الأرض حينما لا ينزل المطر، عامٌ جدب هو عام المجاعة حينما لا ينزل المطر فليس هناك من زرعٍ، عامٌ لا تخضر فيه الأرض هو عامٌ جدب. لِتبدل منه جديب الضَّمير- هذه الضمائر الميّتة، الضمائر الـمُجدبة الَّتي لا حياة فيها. لتبدل منه جديب الضمير بآخر معشوشب – المعشوشب هو كثيرُ العُشب، حينما تكثر الخضرة في مكان يقال لهذا المكان معشوشب. بآخر معشوشب مُمرعِ- المكان الممرع الَّذي تكثُر فيه الخضرة ويكثر فيه الماء. لِتبدل منهُ جديب الضَّميرِ- أنَّ يدك هذه الَّتي صُبغت بنجيعك الأحمر والَّتي مُثِّل فيها فَقُطِع خنصرك هذه اليد ممدودةٌ إلى عالمٍ الضَّمائرُ فيه ميّتة، هذه اليد تريدُ أن تبعث الحياة في هذه الضَّمائر الميّتة. لِتُبدِل منهُ جَديب الضَّمير بآخر مُعشَوشَب مُمرعِ وتدفع هذي النُّفوس الصِّغار خوفاً إلى حرمٍ أمنعِ هذه اليد تُريد أن تنشئ حرماً منيعاً، مكاناً آمناً لهذه النُّفوس، أيَّة نفوس؟ وصفها: (وتدفع هذي النفوس الصغار) وإنَّما تكونُ النفوسُ صغاراً حينما تكونُ ضعيفة الهمّة، كِبَرُ النفوس بِكَبر الهمّة، وبعبارةٍ أدقّ إذا أردنا أن نستعمل المصطلح الشرعي كِبَر النُّفوس بكبر النيَّة، النُّفوسُ كبيرةٌ بكبر نيَّتها، ما المراد من النيَّة؟ ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ﴾ في أحاديث أهل البيت: (قُل كُلٌّ يعمل على نيَّتهِ) النيّة هي الحالة النفسيّة المسيطرة على الإنسان دائماً، ما يُمكن أن يُعبَّر عنه في زماننا هذا بالهاجس المستمر، هناك هاجس مستمرّ يسيطر على الإنسان يُحرِّكُ الإنسان، وإنَّما خلد أهلُ الجنان في الجنان بنيّاتهم وخَلَد أهلُ النِّيران في النِّيران بنيّاتهم، قطعاً الجواهري لا يتحدَّث عن هذه المعاني وإنَّما هذه المعاني جاءت استطراداً في حديثي وإنَّما يتحدّث بنفس المضامين الَّتي يتحدّث مثلاً عنها المتنبّي، الجواهري في شعرهِ يُمثِّل انعكاساً واضحاً عن المتنبّي ويُمثِّل انعكاساً واضحاً عن امرئ القيس من أكثر الشعراء الَّذين بصمات شعرهم واضحة في شعر الجواهري، امرئ القيس من العصر الجاهلي والمتنبّي من العصر الإسلامي، فنفس المعاني الَّتي يتحدَّث عنها الشعراء هو يتحدَّث بهذا اللسان، باللسان الشعري. وتدفع هذي النُّفوس الصِّغار خوفاً إلى حرمٍ أمنعِ ثُمَّ يلتقط صورةً ويُحاول أن يُجري مُقارنة بين هذه الصورة وبين سيّد الشُّهداء فكأنَّه (كأنَّ الشاعر) هنا يبحثُ عن شيءٍ وهذا واضح من خلال الأبيات السَّابقة يبحث عن شيءٍ يُريد أن يُقرِّب صورة الحُسَين بهذا المثال، فأيُّ مثال أخذ؟ تَعاليتَ من صاعقٍ يلتظي فإنْ تَدجُ داجيةٍ يَلمعِ لماذا أخذ الصَّاعق؟ الصَّاعق يعني الصَّاعقة، الصَّاعق والصَّاعقة هو نفسهُ، لماذا أخذ الصَّاعق؟ الصَّاعق عالٍ، الصَّاعقة عالية، الصَّاعقة مُنيرة، الصَّاعقة سريعة، الصَّاعقة مُخيفة، الصَّاعقة لها صوتٌ مهول، الصَّاعقة مُؤثِّرة، إذا ما نزلت على شجرةٍ فإنَّها ستتركها هشيماً، كان يبحثُ عن مثالٍ تتجمَّعُ فيهِ أوصافاً نادرة لذا وجد الصَّاعقة، ثُمَّ يقوم بعمليّة مُقارنة بين هذا الصَّاعق الحُسينيّ وبين الصَّاعقة الصَّاعقة فيقول: (تعاليت من صاعقٍ يلتظي) أنت صاعق، تعاليت من صاعقٍ يلتظي فإن…، يلتظي؛ يتوقَّد، الملتظي هو المتوقّد، فهذا الصَّاعقُ نورهُ مُستمرّ ليس كالصَّاعقة، الصَّاعقةُ تُبرقُ ثُمَّ يذهبُ نُورها، ما إن تحدث عمليّة التفريغ الكهربائي يذهب النور، ولكن هذا الصَّاعق هذا صاعق مختلف، هذا الصَّاعقُ الحُسينيّ يلتظي، يتوقّد، الملتظي المتوقّد الَّذي لا ينقطعُ توقّدهُ وتوهُّجه. تَعاليتَ من صاعقٍ يلتظي فإنْ تَدجُ داجيةٍ يَلمعِ الداجية؛ الظلام الدَّامس. فإن تدج داجيةٌ يلمعِ- يزداد لمعاناً. تأرَّم حِقداً على الصَّاعقات- وأنت يا أيُّها الصَّاعق الحسينيّ تتأرَّم حقداً على الصَّاعقات، لماذا؟ “يتأرَّم” هذه العبارة بالدقَّة: هذا الَّذي تصطك أسنانه وتُخرج صوتاً عند الغضب، هذا هو التأرّم، تأرَّم يعني اصطكّت أسنانهُ وصدر منها صوت أثناء الغضب، فهو هنا أخذ هذه الصورة للحُسين استعارها استعارةً. تعاليت من صاعق يلتظي- هو لا يتحدَّث عن صاعقٍ كصاعقة الطبيعة وإنَّما استعار صُورةً من ذلك الصَّاعق الطبيعيّ وأضاف إليها ما أضاف. تَعاليتَ من صاعقٍ يلتظي فإنْ تَدجُ داجيةٍ يَلمعِ تأرَّمُ حقداً على الصَّاعقاتِ- فأنت أيُّها الصَّاعق الحُسينيّ في حالة غضبٍ شديدة على هذه الصَّاعقات، لماذا؟ لأنَّ هذه الصاعقات لم تُنء ضيراً ولم تنفع، هذه الصواعق برغم ما عندها من المواصفات جهة العُلُو، القُوَّة، الصَّوت، القُدرة على الافناء، لكنَّها لا جلبت نفعاً ولا دفعت ضرّاً. تأرَّمُ حقداً على الصَّاعقاتِ لم تُنء ضَيراً ولم تنفعِ لم تنءِ؛ لم تُبعد. ولم تبذر الحبَّ إثر الهشيم- إذا افترضنا أنَّ هذه المزروعات حينما نزلت الصَّاعقة وأحرقتها لأنَّها كانت فاسدة إذا افترضنا هذه الفرضيّة فلماذا لم تَقُم هذه الصواعق بأن تبذر الحبّ بعد أن حرَّقت هذا المكان. ولم تبذُر الحبَّ إثر الهشيم- الهشيم؛ الأعشاب المحترقة، الأشجار المحترقة أو الَّتي تكون يابسة أساساً. ولم تبذر الحبَّ إثر الهشيمِ وقد حرَّقتهُ ولم تزرَعِ وفي نفس الوقت هو من خلال هذا العيب يُشير إلى كمالٍ وإلى حُسنٍ في ذلك الصَّاعق من أنَّ ذلك الصَّاعق حاله ليس كحال هذه الصَّاعقة، هذا الصَّاعق يبذر الحبّ إثر الهشيم. ولم تُخلي أبراجها في السَّماء- وهذه الصَّواعق بقيت في مكانها، ليست مثلك أيُّها الصَّاعق حين هويت إلى الأرض جريحاً. ولم تُخلي أبراجها في السَّماءِ ولم تأتي أرضاً ولم تُدْقِعِ تُدقع- يعني تتلطّخ بالتراب، والأرض يُقال لها الدقعاء، والدقعاء هي الأرض وهو التراب. ولم تقطع الشَّرَّ من جذمهِ- من جذمه؛ من أصلهِ. رُبَّما طال بنا الحديث، بشكل سريع سأطوي الكلام. ولم تقطع الشرَّ من جذمهِ- الجذم هو الأصل، الجذر. ولم تقطـــــــــع الشَّـــــــر َّمــــن جِذمـــــــهِ وغِلَّ الضمائر لم تنزعِ “الغلّ” هو الحقد أنَّ هذه الصَّواعق صواعق الطبيعة بكُلِّ ما عندها من مواصفات عالية ما استطاعت أن تفعل هذا. ولم تصدم النَّاسَ فيما هُم عليهِ من الخُلق الأوضعِ بينما هي تمتلك القدرة الهائلة على الإخافة والإرعاب. وهنا ينتقل إلى صورة أخرى يريد أن يقول إنَّني لا أريدُ أن أقارن فيما بينك وبين هذه الصَّواعق: تعاليتَ من فلكٍ قُطرهُ يدورُ على المحورِ الأوسعِ القضيَّة خارجة عن المقارنات، بعد كُلّ هذه المقدِّمات فالقضيّة تتجاوز أن أُقارن فيما بينك وبين الصَّواعق وبين الطبيعة. تعاليت من فلكٍ قطره- على أيِّ شيء يدور؟ ما قال يدور على محور، يدورُ على المحورِ الأوسعِ، هو المحور، المحور يكون ضَيّقاً ولكنَّ محور الحُسَين هو الأوسع، المحور يعني المركز، فالشَّاعر هنا يقول من أنَّ مركز الفَلَك الحُسينيّ هو كُلُّ الوجود، هو هذا المراد، الَّذي أفهمهُ، لا أدري هل أنَّ الجواهري يقصد هذا المعنى ولكن يبدو من التراكيب اللغويّة الموجودة في البيت تُشير إلى هذا المعنى. تعاليتَ من فلكٍ قُطرهُ يدورُ على المحورِ الأوسعِ يعني أنَّ الكلام عن استعارة صُورة الصَّاعق من الصَّاعقة الطبيعيّة وأن نصنع صاعقاً جديداً هو الصَّاعق الحُسينيّ بِكُلِّ تلك الأوصاف الَّتي مرَّت، هذا الكلام لا معنى له، أنت أكبر وأعظم من هذه المعاني. تعاليتَ من فلكٍ قُطرهُ يدورُ على المحورِ الأوسعِ ثُمَّ يصعد في المعنى إلى ما هو أوسع من ذلك مُباشرةً بعد هذا البيت: فيا ابن البتول وحسبي بها ضماناً على كُلِّ ما أدّعِي القضيّة تتجاوز كُلَّ الادِّعاءات، والادّعاءات ليست محصورةً بالعلم، الادّعاءات يمكن أن تنطلق من العلم ويمكن أن تنطلق من الظنّ ويمكن أن تنطلق من الاحتمال ويمكن أن تنطلق من الشكّ ويمكن أن تنطلق من الوهم ويمكن أن تنطلق من الخيال، الادّعاءات لا يوجد لها حدّ معيَّن. فيا ابن البتول وحسبي بها ضماناً على كُلِّ ما أدّعِي بعبارةٍ أخرى لنجمع كُلَّ المعاني فإنَّ هذه المعاني داخلةٌ في معناك يا حُسَين كُلَّ المعاني، هذا البيت يريد أن يُلغي جميع المعاني الَّتي تقدَّمت في القصيدة من أوَّلها إلى هذا المكان: (فيا ابن البتول وحسبي بها) تحضرني أبيات لأحمد شوقي أمير الشُّعراء ولا أدري رُبَّما الجواهري نظر إلى هذا المعنى أو لا هو عقيدته الشّيعيّة هي الَّتي دفعتهُ أن يقول ما قال في هذه الأبيات، هُناك قصيدة مشهورة لشوقي معروفة بالهمزيّة النبويَّة وأعتقد رُبَّما البعض منكم سمع بها أو قد يحفظ هذا البيت، بيت مشهور في أوّلها: وُلِد الهدى فالكائنات ضياء وَفَمُ الزمان تبسُّمٌ وثناءُ قصيدة طويلة تصل إلى 131 بيت، موجودة في الجزء الأوّل من ديوان شوقي من الشوقيّات، الأبيات الأخيرة من هذه القصيدة، الأبيات الثلاثة الأخيرة من قصيدة شوقي يقول فيها مخاطباً النَّبيّ الأعظم صلَّى الله عليه وآله: صلَّى عليك اللهُ ما صَحِبَ الدُّجى حادٍ وحنّت في الفلا وجناءُ الوجناء؛ النَّاقة. صلَّى عليك اللهُ ما صَحِبَ الدُّجى حادٍ وحنّت في الفلا وجناءُ واستقبل الرضوان في غرفاتهم بجنانِ عدنٍ آلُك السُّمحاءُ خير الوسائل من يقع منهم (من النَّاس) من يقع منهم على سببٍ إليك فحسبي الزَّهراءُ. خيرُ الوسائل من يقع مِنهم على سببٍ إليكَ فحسبي الزَّهراء فيا ابن البتول وحسبي بها ضماناً على كُلِّ ما أدّعِي أمَّا البيت الَّذي يأتي بعدهُ فلا أدري كيف سأشرحه. ويا ابن الَّتي لم يضع مثلها كمثلك حملاً ولم تُرضعِ هذا البيت أتركه لا أدري في الحقيقة كيف أشرحهُ. ويا ابن الَّتي لم يضع مثلها كمثلك حملاً ولم تُرضعِ ويا ابن البطينِ بلا بطنةٍ ويا ابن الفتى الحاسر الأنزعِ والبطينُ من أسماء سيّد الأوصياء، والجواهري في دقَّةٍ مُتناهية، (ويا ابن البطينِ بلا بطنةٍ) والبطنةُ مرضٌ، هناك مرضٌ يقال له البطنة، والبطنةُ كظَّةٌ حينما يمتلأ الإنسان بالطعامِ والشراب ويشعر بالاختناق هذه الكظَّة حين يمتلئ جوف الإنسان بالطعام، بالشراب، بالغازات يُقال لها كظَّة وهي البطنة، فالبطنة مرضٌ والبطنةُ كظَّةٌ بعد الامتلاءِ بالطعام، والبطنةُ تُقال للتُخمة، والبطنة تقال للشَّهوة العارمة في تناول الطَّعام، والبطنةُ تُقال وصفاً لصاحب الكرش، وعليٌّ مُنزَّهٌ عن كُلِّ هذه المعاني. ويا ابن البطينِ بلا بطنةٍ ويا ابن الفتى الحاسر الأنزعِ هذه الأوصاف الَّتي تتحدَّثُ عن أمير المؤمنين وعن كِبر البطن هذه أوصاف معاوية، معاوية هكذا كان في كتب التأريخ في أيَّامهِ الأخيرة كان مع معاوية غلامان يحملان معه بطنه إذا أراد أن يقوم أو يتحرَّك فحينما يخرجُ من بيتهِ إلى مكان جُلوسهِ هو يسير وأمامهُ غلامان يحملان كرشه وتلك دعوة رسول الله صلَّى اللهُ عليه وآله، والقضيّة معروفةٌ في كتب التأريخ. ويا ابن البطينِ بلا بطنةٍ ويا ابن الفتى الحاسر الأنزعِ الحاسر هو الأبلج الَّذي مرَّ ذكرهُ في بداية القصيدة: (تنوَّر بالأبلجِ الأروعِ) فالحاسر هو واسع الجبين، الجبين المشرق النَّاصع البياض هو هذا الَّذي يُقال لهُ حاسر، والحاسر أيضاً في لغة العرب تُقال للَّذي يخلو جبينهُ من الشَّعر، فهناك الأغمّ وهناك الحاسر، الأغمّ الَّذي تكون منابت شعره قريبةً من حاجبيه، مساحة الجبهة تكون ضيّقة، منابت الشَّعر تكون قريبة من الحاجب، في لُغة العرب يقال لهُ الأغمّ، وأمَّا الحاسر هو الَّذي تكون جبهتهُ خالية من الشعر، ويُقال كذلك للشجعان، لشجعان العرب يوصَفون بأنَّهم حاسرون لأنَّهم في المعارك لا يضعون شيئاً على رؤوسهم، ما كانوا يلبسون شيئاً على رؤوسهم حتَّى لو كانوا يلبسون العمائم فحينما يحملون يُلقون العمائم عن رؤوسهم ويدخلون إلى ساحة المعركة. ويا ابن البطينِ بلا بطنةٍ ويا ابن الفتى الحاسر الأنزعِ وأمَّا الأنزع فهو الَّذي عنده نزعتان، والنَّزعة بالضَّبط هي هذهِ، المكان هذا يقال لهُ النَّزعة، قيل له نزعة لأنَّه قد نُزِع الشَّعر منه، منزوع الشَّعر، أمير المؤمنين كان أنزع، أنزع يعني يُوجد بياض على جبهتيه، هو هذا الأنزع، لا يعني أنَّه لم يكن يملك شعراً على رأسه، ولذلك إذا تقرأون في كتب الفقه أو في الرسائل العمليّة حينما يتحدَّثون عن الوضوء مثلاً فيقولون: هل أنَّ النزعتينِ داخلتان في الوضوء؟ النزعتان لا تدخلان في الوضوء وإنَّما الوضوء يبدأ من قُصاص الشعر، من نهايات قُصاص الشعر، فهذه النَّزعة الَّتي تكون هنا وهنا هذه غير داخلة في الوضوء. ويا ابن البطينِ بلا بطنةٍ ويا ابن الفتى الحاسر الأنزعِ وكانت العرب، وهذه ثقافة عربيّة، الجواهري شاعر عربيّ ومُشبَع بالثَّقافة العربيّة وهو يتحدَّث بأساليب شعراء العرب، هذه الأوصاف في ثقافة العرب كان العربُ يتفاءلون فيها، فحينما يقبلون بحاجةٍ على شخصٍ بهذه الأوصاف يتوقّعون كرم هذا الشَّخص أنَّ هذه الأوصاف يعدّونها في كِرام الرجال. ويا ابن البطينِ بلا بطنةٍ ويا ابن الفتى الحاسر الأنزعِ ويا غُصن هاشم لم ينفتح- وهاشم هو جدّهُ، هاشم هو أوَّل من لُقِّب بالقمر هو وأبوه ولقب عبّاس القمر أخذه من جدّهِ هاشم، هاشم هو القمر، وهذا قمرُ بني هاشم، فهاشمٌ هو القمر. ويا غُصن هاشمَ- المفروض هنا بحسب القواعد العربيّة: (ويا غُصن هاشمٍ) مضاف ومضاف إليه، ولكن لضرورةٍ شعريّة فَكُسِر بالفتحة ويجوز في الشعر ما لا يجوز في النَّثر وإلَّا المفروض بحسب القواعد: (ويا غُصن هاشمٍ) ولكن للضرورة الشعريّة. ويا غُصن هاشم لم ينفتح بأزهر مِّنك ولم يُفرعِ والغُصن واضح الغصن لابدّ أن يكون من شجرة ولابدّ أن تكون هذه الشجرة مُثمرة و(أنا وعليٌّ من شجرةٍ واحدة -تلك هي الشَّجرة- وسائرُ النَّاس من شجرٍ شتَّى). ويا غُصن هاشم لم ينفتح بأزهر مِّنك ولم يُفرعِ ويا وَاصلاً من نشيد الخلودِ ختام القصيدة بالمطلعِ والقصيدة وحدةٌ موضوعيّة لها مطلع وهو البيت الأوَّل ولها خِتام هو البيت الأخير ولابُدَّ أن يكون المعنى مترابطاً، فأنت يا حسين أنت هذا الموضوع الَّذي يربطُ قصيدة الوجود، فهذا الوجودُ قصيدة. ويا وَاصلاً من نشيد الخلودِ ختام القصيدة بالمطلعِ فأنت المستهلُ وأنت الخاتمة وأنت ما بينهما، أنت الواصلُ بين البداية والنِّهاية، (بِكُم فَتَحَ الله وَبِكُم يَختِم). ويا وَاصلاً من نشيد الخلودِ ختام القصيدة بالمطلعِ يَسيرُ الورى– الورى؛ النَّاس، الكائنات، الخلق، “الورى” قد تُطلَق على بني آدم وقد تُطلَق على كُلِّ المخلوقات، حين نقول مُحَمَّدٌ خير الورى صلَّى الله عليه وآله، المراد من الورى الوجود، الكائنات طُرَّاً، يسيرُ الورى ولكن الحديث هنا يبدو عن النَّاس. يسير الورى بركابِ الزَّمان- الزَّمانُ هو الَّذي يُسيّره، يسير الورى بركابِ الزَّمان وكأنَّ الزَّمان هنا مَلِكٌ والنَّاسُ تسيرُ في ركابهِ، يُقال أنَّ الملك الفلاني سار وسار القومُ بركابهِ، شريفُ القوم سار وأقرباؤه، أتباعه، أنصاره ساروا بركابه، فيقال: أنصار الحسين ساروا بركابهِ، الرِّكابُ أساساً هو النَّعل أو هو النَّعل الَّذي ينتعلهُ الفارس وهو على ظهر جوادهِ. يسيرُ الورى بركاب الزَّمانِ- وكأنَّ الزَّمان ملكٌ يحكم النَّاس والنَّاس تسيرُ بركابهِ، هو يتحكَّم فيها. يسيرُ الورى بركابِ الزَّمان من مُستقيمٍ- المستقيم هو الَّذي يمشي مشيةً سليمة صحيحة. ومن أظلعِ- الأظلع هو الأعرج، من كان أعرج أو كان يَعوجُّ في مشيتهِ يُقال له الأظلع، هناك الأضلع بأُخت الصَّاد وهُناك الأظلع بأخت الطاء، هذه الأظلع بأخت الطاء. يسيرُ الورى بركابِ الزَّمان من مُستقيمٍ ومن أظلعِ وأنت (يا حُسين) تُسيِّر ركب الخلودِ – فهو الواصل من نشيد الخلود، قبل بيتين: ويا وَاصلاً من نشيد الخلودِ ختام القصيدة بالمطلعِ يسيرُ الورى بركابِ الزَّمان من مُستقيمٍ ومن أظلعِ وأنت (يا حُسين) تُسَيِّرُ ركب الخلود ما تستجدَّ له يتبعِ أنت الَّذي تُحِّركُ كُلَّ شيء من حولك، أنت الَّذي تفتحُ الطريق لكُلِّ الَّذين يأتون من خلفك. وأنت تُسَيِّرُ ركب الخلود ما تستجدَّ له يتبعِ قطعةٌ من الحسينِ وقطعةٌ صغيرة فلذةٌ من كبد الحُسين طفلةٌ صغيرة هُناك في خربة الشَّامِ تحت السّياطِ والمهانة والإذلالِ دُفِنت لا زالت تلك القطعةُ شامخةً تباكرها الوفود رقيّة صلوات الله وسلامه عليها، رقيّةُ مثالٌ حيٌّ تتحدَّثُ عن حياةِ هذا المنهج الحيّ، لنترك كربلاء ولنترك الحُسين، رقيّةُ مثالٌ وبرهانٌ، ربَّما الكثير منكم زارها، المكان الَّذي فيهِ مزارُها وقبرها أين؟ هل تعرفون ما اسم المحلَّة؟ هذه المحلَّة محلَّة الأمويين، إلى اليوم إسم هذه المحلَّة الَّتي فيها مزار السيّدة رقيّة هو هذا اسمها: محلَّة الأمويين، وهؤلاء أحفادهم، أحفادهم أحفادهم فعلاً، أحفادهم تأريخيّاً، هذه المنطقة منطقتهم وهؤلاء تأريخيّاً ينتسبون إلى الأمويين، هناك انتساب تأريخيّ، أنتم اذهبوا وسلوا عن كلِّ تلك الرموز الأمويّة هل لها من أثر في وسط الأمويين؟! قطعةٌ من الحُسين عليه السَّلام هي مصداقٌ لهذه الأبيات: ويا وَاصلاً من نشيد الخلودِ ختام القصيدة بالمطلعِ يسيرُ الورى بركابِ الزَّمان من مُستقيمٍ ومن أظلعِ وأنت تُسَيِّرُ ركب الخلود ما تستجدَّ له يتبعِ كُلُّ هذه الصور الَّتي مرّت والَّتي ستأتي وكُلُّ الصور الَّتي رسمها الشُّعراء عبر العصور وكُلُّ الآدابِ وكُلُّ الفُنون لا يُمكننا أن نُقايسها بتلك اللوحة الَّتي لا يستطيع رسَّامٌ أن يرسمها ولا يستطيع شاعرٌ أن يتحدَّث عنها حين ارتفعت صيحات رقيّةُ في ذلك اللَّيل البهيم والقصّة تعرفونها وجاءوها بالطشت الذهبيّ الَّذي وضعوا فيه رأس الحُسين وقد وضعوا منديلاً على ذلك الطشت، (عمَّة لا أريد طعاماً، قالت: بُنيَّة ارفعي المنديل وسترين أباكِ، فلَمَّا رفعت المنديل هوت على ذلك الرأس الشَّريف: أبا من خضَّب الشَّيب العفيف؟!) هذه الصورة هل يستطيع رسَّام أن يرسمها؟! هل يستطيع شاعر أن يُقرِّب لنا هذه الفكرة؟! (أبا من قطع الرأس الشَّريف؟! أبا من خضَّب الشيب العفيف؟! أبا من أيتمنى على صغر سنّي؟!) السَّلامُ عَلَى الشَّيبِ الخَضِيب.. السَّلامُ عَلَى الخَدِّ التَّرِيب.. السَّلامُ عَلَى البَدَنِ السَّلِيب.. السَّلامُ عَلَى الثَّغرِ الـمَقْروعِ بِالقَضِيب وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه… اللَّهُمَّ يَا رَبَّ الحُسَينِ بِحَقِّ الحُسَين إشْفِ صَدْرَ الحُسَين بِظُهُورِ الحُجَّة عَلَيهِ السَّلام. أسألكم الدعاء جميعاً وصلّى الله على سيّدنا ونبيِّنا مُحَمَّدٍ وآله الأطيبين الأطهرين. ملخـّص الحلقة تاريخ البث : يوم الخميس 19 صفر 1439هـ الموافق 9 / 11 / 2017م وردتني أسئلة عديدة على إيميل البرنامج الذي كُنتُ أُقدّمه على شاشة القمر، و هو برنامج [سؤالك على شاشة القمر].. الأسئلة تطلب منّي أن أُبيّن معاني قصيدة “عينيّة الجواهري”. سأحاول أن أشرح مضامين هذه القصيدة بشكلٍ مُختصر مُوجز و سريع.. في هذه الّليلة أتناول شطراً منها، و في الّليلة الآتية أتناول الشطر المُتبقّي من هذه القصيدة. في البداية لابُدّ أن أُشير إلى نقطة مهمّة، و هي: أنّه حينما يشرح شارحٌ قصيدةً مِن القصائد هو لا يعلم بالضبط ماذا يُريد الشاعر أن يقول، فالمعنى في قلب الشاعر – كما يقولون – و لكن هناك معنىً إجمالي يظهرُ مِن القصيدة.. هو هذا الذي سأُشير إليه.. و ربّما يدفعني ذلك إلى إضافة بعض المطالب بشكل موجز، ربّما لا يقصدها الشاعر، و ربّما يقصد الشاعر شيء آخر. ● (وقفة عند حادثة طريفة تُنقل عن الشاعر أبي نؤاس تُبيّن أنّ معنى القصيدة في قلب الشاعر، و ليس بالضرورة أنّ ما يأتي به شارح القصيدة مِن شرح هو ما يُريده الشاعر). فداءٌ لِمثواك مِن مضجع تنوّر بالأبلج الأروع. المثوى: هو المكان الذي يثوي إليه الإنسان، و معنى يثوي إليه: أي يعود إليه كي يستقرّ فيه.. و المضجع: هو المكان الذي ينام فيه الإنسان. ● (تنوّر بالأبلج الأروع) تنوّر هنا ليس مِن النُور.. و إنّما مِن (النَور) يعني: الورود.. النَور في لُغة العرب: هو الورد، بقرينة البيت الذي يأتي بعدها: بأعبق مِن نفحات الجنان روحاً و مِن مسكها أضوع. فهناك عَبَق، و هناك مِسْكٌ يضوع، و هناك رائحة.. فهذه الرائحة لا تأتي مِن النُور، و إنّما تأتي مِن النَور و مِن النوّار هو الورد.. و العرب يُطلقون كلمة (النَور) على الورد الذي يُزهر بشكل طبيعي (يعني لا يأتي زارع يزرعه) و في الغالب يُستعمل في الورد الأبيض الذي ينبت مع الأعشاب في فصل الربيع. فيُقال: (تنوّرت الأرض) أي أعشبتْ و خرج فيها الزهر و الورد الطبيعي.. و أمّا (النوّار) فهي الثمار.. يُقال شجرة تنوّرتْ: أي خرجتْ ثمارها مِن أكمامها. ● (الأبلج) في لغة العرب هو صاحب الجبين الواسع المُشرق.. و يُقال كذلك للذي لا تنقعد حاجباه (أي لا تلتقي) يُقال له أبلج. ● و أمّا (الأروع) فهي مِن الرائع.. و الرائع والأروع هو حسن الجسم، و حسن الوجه، و حسن الشعر، و لهُ مهابة بين الناس و بين قومه. فالذي يظهر مِن قول الشاعر هنا في البيت الأوّل: أنّ الشاعر يجعل نفسه فداءً لهذا المثوى.. لهذه الأرض التي استقرّ فيها الحُسين.. لأنّ هذا المثوى تنوّر بالأبلج الأروع. فهذا الأبلج الأروع الذي ثوى في هذا المكان جعل هذا المكان مُزهراً مُورداً.. و هنا لا يتحدّث عن الأزهار و عن الورود بهذا المعنى الحسّي.. و إنّما يتحدّث عن معنىً حقيقي للأزهار و للورود. أزهرتْ حقيقة الورود في هذا المكان حين ثوى فيه هذا الأبلج الأروع. بأعبق مِن نفحات الجنان روحاً و مِن مسكها أضوع. هذه الورود و الأزاهير فاحتْ روائحها و عُطُورها بأعبق من نفحات الجنان.. (العَبَق) هو طيب الرائحة، و (الروح)) هو ارتياح النفس و ارتياح الذات إمّا لنسيم عذب قارب ذلك الإنسان، و إمّا لرائحة طيّبة، و إمّا لِطهارة مكان و نظافته، و إمّا لِجمالٍ و لِحُسنٍ في ذلك المكان أحاط به.. مثلما جاء التعبير في القرآن الكريم: (رَوحٌ و ريحان). (المِسك) هو العِطر المُستخرج مِن نافجة الغَزال.. هو نوعٌ من أنواع الدم ذُو رائحة طيّبة.. و (ضاع المسك) أي انتشر في المكان و وصل إلى الآناف. و هذان البيتان يتحدّث فيهما الشاعر عن كربلاء. و رعياً ليومك يوم الطفوف و سقياً لأرضك مِن مصرعِ. ● (رعياً) مفعول مُطلق، و المفعول المُطلق يُمكن أن يحذف الفعل و يقوم مقام الفعل.. فيكون التقدير هكذا: (إنّي أُراعي رعياً ليومكَ يوم الطفوف) يعني عندي رعاية ليومك يوم الطفوف.. و الطفوف اسمٌ لكربلاء، و المُراد مِن الرعاية هو حفظ هذا اليوم. ● (سَقياً) أي: أنّني أسقي أرضك و مصرعك سقياً.. و المصرع هو المكان الذي يُصرع فيه الإنسان – أي يُقتل – و هذا المعنى وارد في كلمات رسول الله “صلّى الله عليه وآله” حين يُخاطب العترة الطاهرة و يُحدّثهم أنّ مصارعهم شتّى.. و هذه الكلمة (مصارع) وردتْ في كُتبنا و في كُتب المُخالفين، و مِن خلال هذه الكلمة نُثبت أنّ الزهراء قُتلت.. لأنّ النبي الأعظم خاطب العِترة الطاهرة بأنّ مصارعكم شتّى، فالزهراء سيّدة العترة.. فهذه الكلمة فيها دلالة واضحة على أنّ الزهراء قُتلتْ. و هذا التعبير (سُقياً) باعتبار أنّ السقي مِن علامات الخير للأرض.. و لذلك في الأشعار العربيّة دائماً يرد هذا المعنى. دائماً الشُعراء يُشيرون إلى أنّ الأرض تُسقى، إشارة إلى التفاؤل و إلى الخير. و حُزناً عليكَ بحبس النفوس على نهجك النيّر المَهيع. الشعراء يقولون ما لا يفعلون.. و إلّا فهذا المعنى أين و الجواهري أين في حياته الواقعيّة..! و المُراد: أنّ الحُزن عليك يا أبا عبد الله هكذا يكون بحبس النفوس.. أي بضبطها و إيقافها على نهجك النيّر المَهيع.. و المُراد من النهج: هو السبيل.. أمّا النيّر: فهو هو البيّن المُشرق الذي لا يحتاج إلى إيضاح، يعني أنّ الطريق يأخذك بنفسه لا تحتاج إلى علامات، فهذا الطريق مضمون.. هذا هو النهج النيّر. ● أمّا (المَهيع) فهو نفس معنى النيّر، فهو تأكيد.. المَهيع هو: الواضح. و صوناً لِمجدك مِن أن يُذال بما أنت تهواه مِن مُبدَعِ. ● (يُذال) أي يُهان.. و المُراد أنّي أصون مجدك صوناً.. و أماّ قوله (بما أنت تهواه مِن مُبدَعِ) فالذي يغلب على ظنّي أنّ الجواهري هنا يُشير إلى الاختلافات التي حدثتْ آنذاك في النجف و كربلاء و البصرة.. فهذه القصيدة نظمها الجواهري في عام 1947م و بالضبط في تلك السِنين كان هناك صراع داخل الوسط الشيعي بخصوص قضيّة الشعار الحُسينيّة.. فهناك مجاميع تُدافع عن الشعائر الحُسينيّة، و هناك مجاميع كانت ترفض الشعائر الحُسينيّة حتّى قُسّم الناس في النجف و في كربلاء وفي البصرة إلى حزبين: الحزب العَلَوي، والحزب الأموي. (والحزب الَعَلوي لهُ مراجعه و له خُطباؤه و شُعراؤه، و الحزب الأموي له مراجعه من كبار المراجع).. و لكن يبدو لي أنّهُ يُشير إلى هذه القضيّة، فهو من المجموعة التي تُعارض الشعائر الحُسينيّة.. لأنّه يقول: و صوناً لِمجدك مِن أن يُذال بما أنت تهواه مِن مُبدَعِ – من البدعة – باعبار أنّ هذه بِدع يقولون عنها.. و إلّا فلا أجد معنى للبيت في القصيدة.. إلّا أن يكون مُرادُه هو: أنّي أصون مجدك عن المُفتريات الموجودة في الكُتب، فيُمكن أن يكون هذا. ● هذه الأبيات بمثابة فاتحة للقصيدة.. الشاعر هنا يتحدّث عن موقفه أمام سيّد الشهداء، و عن موقفه و هو في كربلاء.. فهذه القصيدة حِين نظمها الجواهري كان في حفل في كربلاء. فيا أيّهاالوتر في الخالدين فذّاً إلى الآن لم يُشفَعِ. الجواهري هنا يتحدّث عن المعنى اللغوي الأدبي.. فالوتر: هو المُفرد، و الشفع هو : الزوج. إذا أردنا أن نأخذ المعنى بالإجمال، فهو جميل.. أمّا إذا أردنا أن نأخذ بالدقّة العقائديّة (بمنطق الزيارة الجامعة الكبيرة) فإنّ ما لآخرهم هو لأوّلهم، و ما لأوّلهم لآخرهم، فهم نورٌ واحد، طينة واحدة. و يا عِظة الطامحين العِظام لِلاهين عن غدهم قُنّع (العظة) هي الموعظة، والموعظة تعني العِبرة.. و (الطامحون) هم الذين ينظرون إلى العُلو، أو ينظرون إلى الشيء البعيد.. و طَمَح ببصره: إمّا أن رفعه إلى الأعلى، و إمّا أن نظر إلى أبعد نُقطةٍ يُمكن أن يراها.. فالمُراد من قوله: (و يا عِظة الطامحين العِظام) الذين يملكون مشاريع و أهداف كبيرة.. و هذه العِظة تُوجّه إلى هؤلاء الّلاهين عن غدهم، الذين يشتغلون في السفاسف و لا يملكون بُعد نظر. الذي يلهو عن غده، لا ينظرُ إلى غده، لا يملكُ نظراً.. فأساس الدين يتلخّص في هذه العبارة: (رحم الله امرئاً عرف من أين و إلى أين) فهو لا يلهو عن غده. ● (القُنّع) جمعٌ لقانع.. فهؤلاء مُقتنعون بما عندهم، مشغولون بالذي بين أيديهم، لا يبحثون عمّا هو أبعد من ذلك.. هم قانعون.. و قد يشتمل أيضاً على هذا المعنى أنّ (القُنّع) من التقنّع، فهم مُقنّعون لا يرون شيئاً.. قنّعوا أنفسهم بسفاسفهم وجهالتهم و قلّة همّتهم، و ضعف سفاسفهم. تعاليت مِن مُفزعٍ للحتوف و بُورك قبرك مِن مَفزعِ. المُفزع: هو المُخيف.. و الحتوف: جمعٌ لحتف، و الحتف هو الموت.. ولكن إذا أردنا أن نُشخّص المعنى بدقّة: فالحتف هو الموت المؤلم. هذا الأسلوب الموجود في البيت يُسمّى جناس.. يعني أنّ الكلام يشتمل على مُفردات ذات لفظ واحد و لكن المعاني مُختلفة. (مُفزِع، و مَفْزَع) نفس الحروف.. و لكن المعاني هنا مُختلفة.. (و الجناس يُعدّ من المُزوّقات الشعريّة التي تُستخدم لتجميل النظم الشِعري). و المراد من البيت: أي أنّك يا حُسين تُخيف الحتوف.. (و بُورك قبرك مِن مَفزعِ) يفزع إليه الخائفون.. ففي الوقت الذي أنت تُخيف الحتوف، فإنّ الخائفون يتدافعون إلى مثواك العظيم هذا. تلوذ الدهور فمِن سُجّدٍ على جانبيه و مِن رُكّع. قطعاً المُراد من تعبير (الدهور) هنا ليس هو الدهر الذي هو الزمان.. و إنّما المراد من الدهور: أبناء الدهر، أبناء الزمان.. و إلّا فالزمان ناشئٌ من حركة الأفلاك.. الزمان من المعاني الانتزاعيّة التي تُنتزع مِن حركة الأفلاك.. و إنّما الذين يصنعون الأفاعيل ويصنعون الأحداث هم الناس. فالمُراد مِن (تلوذ الدهور) أي الدهور بأحداثها، و أحداث الدهور بِصُنّاعها، و صُنّاعها هم البشر. شممتُ ثراكَ فهبّ النسيم نسيمُ الكرامةِ مِن بلقع. الثرى في لغة العرب: تُطلق على التراب بشكلٍ عام.. و إذا أردنا أن نُشخّص المعنى بالدقّة فإنّ الثرى في لغة العرب تُقال على التراب الندي الذي هو تحت الطبقة الأولى من التراب. ● (فهبّ النسيم) هذا النسيم هبّ من نفس الثرى.. أمّا (البلقع) فهي الأرض الخالية التي لا يُوجد فيها أي شيء لربّما الشاعر يُريد أن يقول: أنّ كُلّ شيءٍ سِواك فهو بلقع.. و لا يُوجد أيّ أثر حسنٍ جميل في كلّ ما سِواك، فلا كرامة في كُلّ هذه البلاقع.. نسيم الكرامة جاء مِن ثراك فقط.. و لربّما أراد الشاعر أن يقول: أنّ نسيم الكرامة جاء واضحاً جدّاً، لأنّه لا تُوجد رائحة أخرى، فالأرض خالية ليس فيها شيء.. فما شممت إلّا نسيم الكرامة هذا. و عفّرتُ خدّي بحيثُ استراح خدٌّ تفرّى و لم يضرعِ. و لا أعتقد أنّ الشاعر يتحدّث عن آداب الزيارة.. و إنّما يتحدّث عن إنبهاره بهذا الطود الأشم، و لِذا يتهواه على ثراه. (تفرّى) أي تشقّق و سال دمه، تمزّق. عندنا صُورة في أخبار المقتل الحُسيني مِن أنّ سيّد الشهداء صنع له وسادةً مِن الرمل، و وضع خدّه الشريف عليها مُستريحاً.. لربّما الجواهري اقتنص هذه الصورة. (لم يضرع) أي لم يُصبه الهوان و لم يخضع. و حيثُ سنابكُ خيل الطغاة جالت عليه و لم يخشعِ. السنابك هي الحوافر.. و إذا أردنا أن نُحدّد المعنى بالدّقة.. فإنّ سنابك الخيل هي النهايات الحادّة في مقدّم حافر الفَرَس.. و هي جمعٌ لسُنبك. (جالت عليه) أي غاديةً رائحة.. و هي هكذا صنعتْ بالحُسين. و خِلتُ و قد طارت الذكرياتُ بروحي إلى عالمٍ أرفعِ. (خِلتُ) لغوياً: من خال، أي حسِب أو ظنّ.. و لكن الشاعر يبدو أنّه هنا يُشير إلى الخيال بقرينة البيت الذي بعده. ● القصيدة إذا كانت قصيدة فلابُدّ أن تشتمل على وحدة موضوعيّة و إلّا فلا تُسمّى قصيدة.. العرب تقول أنّ القصيدة تبدأ من سبعة أبيات فما فوق.. فيقولون أنّ الشاعر في سبعة أبيات يستطيع أن يُبيّن مقصوده.. و الشاعر يستطيع أن يُبيّن مقصوده إذا كانت هناك وحدة موضوع في القصيدة. فبعد هذه المقدّمات الشاعر يُريد أن يرسم هنا صُورةً مِن وجدانه الذي أطلق لهُ العنان في الخيال.. يعني الشاعر هنا يجنح إلى خياله. و طِفتُ بقبركَ طوف الخيالِ بصومعةِ المُلهم المُبدِعِ. الصومعة: هي المكان الخاص، قد يكون خاصّاً بالعبادة، أو قد يكون خاصّاً بأيّ شيءٍ آخر.. أساساً كلمة (الصومعة) في لغة العرب كانت تُقال للمكان الذي يُحفظ فيه الحبوب.. لأنّ هذه الأماكن عادةً ما تُوضع فيها الحبوب و تُطيّن حفاظاً عليها من الفساد.. فالأماكن المُغلقة يُقال لها صوامع.. فيُقال للمكان الذي يختلي فيه الإنسان بعبادته يُقال له: صومعة. ● و أمّا قوله (المُلهم المُبدِعِ) فهو يُشير هنا إلى الحُسين.. و الصومعة هو مزاره، كأنّ يداً مِن وراء الضريح حمراء مبتورةَ الإصبع. هذه اليد هي يد الحُسين.. و الضريح هو القبر.. و كُتب المقاتل تُحدّثنا أن “بجدل البدوي” هو الذي قطع خُنصر الحُسين.. فقد كان خاتم الحُسين في خُنصره، و قد تجمّد الدم عليه.. فحاول هذا الّلعين أن يُخرج الخاتم ما استطاع، فأخرج خنجره وقطع خنجر الحُسين..! و الأخبار التي تُحدّثنا عن مجيء الإمام السجّاد “صلواتُ الله عليه” لدفن الأجساد الشريفة، فبعد أن جمع جسد الحسين على بارية (حصير).. الأسديّون رأوا الإمام يبحث في الأرض.. و كان يبحث عن الخُنصر الشريف. ● أمّا قوله عن اليد أنّها (حمراء) فذاك لأنّها تخضّبتْ بالدماء.. و سيّد الشهداء تخضّبت يده بالدماء أكثر من مرّة. تُمّد إلى عالمٍ بالخُنوع و الضَيم ذي شَرَقٍ مُترَعِ. (الخنوع) هو المَهانة والمذلّة.. و (الضَيم) هو ما يُصيب الإنسان مِن أذى الإذلال.. (الشَرَق) الغصّة التي تعترض في حلق الإنسان.. و أمّا (المُترَع) فهو المملوء.. والقدح المُترَع: هو القدح المملوء. فهذه اليد الحمراء التي بُتِر خُنصرها.. هذهِ اليد ممدودة إلى عالمٍ فاض خُنوعه، و فاضتْ مَهانته، و فاضَ ضيمه، و فاضتْ ذِلّته.. عالم ذليل. تخبّط في غابةٍ أطبقتْ على مُـذئبٍ مـنهُ أو مُسْبِعِ. المُتخبّط هو الذي يتعثّر يمنةً و يسرة.. لا يدري إلى أين يتّجه. (المكان المُذئب) هو المكان الذي تكثرُ فيه الذئاب، و (المكان المُسبِع) هو المكان الذي تكثرُ فيه السِباع. لِـتُبدِلَ مـنه جديبَ الضمير بـآخَـرَ مُـعْشوشِبٍ مُـمرِعِ. الجَدَب هو الحالة التي تعتري الأرض حينما لا ينزل المطر.. و العام الجَدَب هو عام المجاعة، هو العام الذي لا تخضرّ فيه الأرض. ● (لِـتُبدِلَ مـنه جديبَ الضمير) هذه الضمائر الميّتة المُجدبة التي لا حياة فيها.. و (المُعشوشب) هو كثير العُشب، حينما تكثرُ الخُضرة في مكان يُقال له مكان مُعشوشب.. و المكان المُمرع: هو المكان الذي تكثرُ فيه الخُضرة، و يكثرُ فيه الماء. فالمعنى المُراد: أنّ يدكَ هذه التي صُبغتْ بنجيعك الأحمر و التي مُثّل فيها و قُطع خُنصرها، هذه اليد ممدودة إلى عالمٍ الضمائر فيه ميّتة.. هذه اليد تُريد أن تبعث الحياة في هذه الضمائر الميّتة. و تـدفعَ هذي النفوسَ الصِغارَ خـوفـاً إلـى حَـرَمٍ أمـنَعِ. هذه اليد تُريد أن تُنشيء حرماً منيعاً و مكاناً آمناً لهذه النفوس (الصغار).. و إنّما تكون النفوس صِغاراً حينما تكون ضعيفة الهِمّة.. كِبَرُ النفوس بِكَبر الهمّة. و بعبارة أدق: إذا أردنا أن نستعمل المُصطلح الشرعي فإنّ كِبَر النفوس بِكبَر النيّة.. فكِبر النفوس بِكبر النيّة. في أحاديث أهل البيت المُراد من قوله {قل كُلٌ يعمل على شاكلته} أي كُلٌ يعملُ على نيّته.. النيّة هي الحالة النفسيّة المُسيطرة على الإنسان دائماً.. هي الهاجس المُستمر الذي يُسيطر على الإنسان فيُحرّك الإنسان. ● ثُمّ يلتقط الشاعر صورة، و يُحاول أن يُجري مُقارنة بين هذه الصورة و بين سيّد الشهداء.. فكأنّ الشاعر هنا يبحث عن شيء يُريد أن يُقرّب صُورة الحسين بهذا المثال و هو قوله: تـعاليتَ مِـن صاعِقٍ يلتظي فــإنْ تَـدْجُ داجـيةٌ يَـلمعِ. أخذ الشاعر (الصاعقة) لأنّها عالية، و لأنّها مُنيرة و سريعة و مُخيفة.. و لأنّ لها صوتٌ مهول، و هي مؤثّرة.. فإذا نزلتْ على شجرةٍ فإنّها ستجعلها هشيمة. فكان الشاعر يبحث عن مثالٍ تتجمّعُ فيه أوصافاً نادرة، لِذا وجد الصاعقة. ثُمّ يقوم بعمليّة مُقارنة بين هذا الصاعق الحُسيني و بين الصاعقة الصاعقة، فيقول: تـعاليتَ مِـن صاعِقٍ يلتظي فــإنْ تَـدْجُ داجـيةٌ يَـلمعِ. (يلتظي) أي يتوقّد.. فهذا الصاعق نوره مُستمر، و ليس كالصاعقة.. فالصاعقة تُبرق ثُمّ يذهب نورها.. و لكن هذا الصاعق الحُسيني يلتظي أي يتوقّد، يعني لا ينقطع توقّده و توهّجه.. أمّا فهي (الداجية) الظلام الدامس. تـأرّمُ حِـقداً على الصاعقاتِ لـم تُـنْءِ ضَـيراً و لم تَنْفَعِ. أنت أيّها الصاعق الحُسيني تتأرّم حقداً على الصاعقات.. (يتأرّم) يعني اصطكّت أسنانه، و صدر منها صوت أثناء الغضب.. فهو هنا استعار هذه الصورة للحُسين استعارةً. هو لا يتحدّث عن صاعقٍ كصاعقة الطبيعة.. و إنّما استعار صُورةً مِن ذلك الصاعق الطبيعي و أضاف إليها ما أضاف.. فأنتَ أيّها الصاعق الحُسيني في حالةِ غضبٍ شديد على هذه الصاعقات؛ لأنّ هذه الصاعقات برغم ما عندها من المواصفات (جهة العلو، الصوت، القدرة على الإفناء) لكنّها لا جلبتْ نفعاً و لا دفعت ضرّاً. و لـم تَـبْذُرِ الحَبَّ إثرَ الهشيمِ و قـد حـرَّقَتَهُ و لـمْ تَـزرعِ. إذا افترضنا أنّ هذه المزروعات حينما نزلتْ الصاعقة و أحرقتها لأنّها كانتْ فاسدة، فلماذا لم تقم هذهِ الصواعق ببذر الحبّ بعد أنّ حرّقتْ هذا الهشيم.. و المُراد مِن الهشيم: أي الأشجار المُحترقة، أو التي تكون يابسة أساساً. ● (و قـد حـرَّقَتَهُ ولـمْ تَـزرعِ) أي و في نفس الوقت هو من خلال هذا العيب يُشير إلى كمالٍ و إلى حُسنٍ في ذلك الصاعق.. من أنّ ذلك الصاعق حاله ليس كحال هذه الصاعقة.. هذا الصاعق يبذر الحبّ إثر الهشيم. و لـم تُخلِ أبراجَها في السماء ولـم تـأتِ أرضـاً ولم تُدْقِعِ. هذه الصواعق بقيت في مكانها، ليست مثلك أيّها الصاعق حين هويت إلى الأرض جريحاً. (تُدقع) يعني تتلطّخ بالتراب.. و الأرض يُقال لها : الدقعاء. و لـم تَـقطعِ الشرّ مِن جِذْمهِ و غِـلَّ الـضمائرِ لـم تَنْزعِ. و المُراد: أنّ هذه الصواعق (صواعق الطبيعة) بكلّ ما عندها من مواصفات عالية ما استطاعت أن تفعل هذا: و لـم تَـصْدِمِ الناسَ فيما هُمُ عـليهِ مـن الـخُلُقِ الأوضَعِ. بينما هي تمتلك القدرة الهائلة على الإخافة والإرعاب.. و هنا ينتقل إلى صورة أُخرى.. يُريد أن يقول: إنّني لا أريد أن أُقارن فيما بينك و بين هذه الصواعق.. فيقول: تـعاليتَ مـن ” فَلَكِ ” قُطْرهُ يـدورُ عـلى المِحوَرِ الأوسعِ. فالقضيّة تتجاوز أن أُقارن فيما بينك و بين الصواعق و الطبيعة.. فالشاعر هنا يقول: أنّ مركز الفلك الحُسيني هو كُلّ الوجود. ● ثُمّ يصعد الشاعر في المعنى إلى ما هو أوسع من ذلك.. فمُباشرة بعد هذا البيت يقول: فـيابنَ “البتولِ” و حَسبي بها ضـماناً عـلى كلّ ما أدّعي القضيّة تتجاو كُلّ الادّعاءات.. و الادّعاءات ليستْ محصورة بالعلم.. فالادّعاءات يُمكن أن تنطلق من الظن، ومن الاحتمال، و من الشك، ومن الوهم، و يُمكن أن تنطلق من الخيال.. فالادّعاءات لا يُوجد لها حدّ مُعيّن. بعبارة أخرى: لنجمع كُلّ المعاني فإنّ هذه المعاني داخلة في معناك يا حُسين.. فهذا البيت يُريد أن يُلغي جميع المعاني التي تقدّمتْ في القصيدة من أوّلها إلى هذا المكان. و بـابنَ الـتي لم يَضَعْ مِثُلها كـمِثلِكَ حَـملاً و لـم تُرْضِعِ. هذا البيت لا أدري في الحقيقةِ كيف أشرحه..! البطين مِن أسماء سيّد الأوصياء و الجواهري في دقّةٍ مُتناهية.. (البِطنة) مرض يُقال لهُ البِطنة، و البِطنة كِظّةٌ حينما يمتلئ الإنسان بالطعام و الشراب و يشعر بالاختناق.. و البِطنة تُقال للتُخمة، و البِطنة تُقال للشهوة العارمة في تناول الطعام، و البِطنة تُقال وصفاً لصاحب الكرش.. و عليٌ مُنزّهٌ عن كُلّ هذه المعاني. فهذه الأوصاف التي تتحدّث عن كِبَر البطن، هذه أوصاف مُعاوية كما تُحدّثنا كُتب التأريخ. (الحاسر) هو الأبلج الذي مرّ ذكره في بداية القصيدة.. الحاسر هو واسع الجبين، و صاحب الجبين المُشرق.. و الحاسر أيضاً في لُغة العرب تُقال للذي يخلو جبينه من الشعر، فهناك الأغم و هناك الحاسر.. الأغم: هو الذي تكون عنده مساحة الجبهة ضيّقة، و تكون منابت شعره قريبة مِن حاجبيه. و يُقال كذلك لشُجعان العرب أنّهم حاسرون لأنّهم في المعارك لا يضعون شيئاً على رؤوسهم. ● و أمّا الأنزع: فهو الذي عنده نزعتان.. (منزوع الشعر) يعني يُوجد بياض على جبهته. و يـا غُصْنَ “هاشِمَ” لم ينفَتِحْ بـأزهرَ مـنكَ ولـم يُـفْرِعِ. هاشم هو جدّهم.. و هاشم هو أوّل مَن لُقّب من لُقّب بالقمر هو و أبوه.. و لقب العبّاس (القمر) أخذه من جدّه القمر. و يا واصِلاً مِن نشيدِ “الخُلود خِـتـامَ الـقصيدةِ بـالمطلع. و القصيدة لها وحدة موضوعيّة.. لها مَطلع و هو البيت الأوّل، و لها ختام و هو البيت الأخير، و لابُدّ أن يكون المعنى مُترابطاً.. فأنت يا حُسين هو هذا الموضوع الذي يربط قصيدة الوجود.. فهذا الوجود قصيدة.. فأنتَ المُستهلُّ، و أنت الخاتمة، و أنت ما بينهما.. أنتَ الواصل بين البداية و النهاية (بكم فتح الله و بكم يختم). يَـسيرُ الورى بركاب الزمانِ مِـن مـستقيمٍ و مـن اظـلعِ. (الورى) قد تُطلق على بني آدم، و قد تُطلق على كُلّ المخلوقات.. فحين نقول: محمّدٌ خير الورى.. أي خير الوجود، خير الكائنات طُرّاً.. و لكن الحديث هنا على ما يبدو عن الناس. و كأنّ الزمان هنا مَلِكٌ و الناس تسيرُ في ركابه.. والركاب هو النعل الذي ينتعله الفارس و هو على ظهر جواده.. فكأنّ الزمان ملِكٌ يحكم الناس و الناس تسير بركابه.. هو يتحكّم فيها.. و (المُستقيم) هو الذي يسير مشيةً سليمة صحيحة.. و (الأظلع) هو الأعرج، أو هو مَن يعوّج في مشيتهِ. و أنـتَ تُـسيِّرُ ركْبَ الخلود مــا تـسـتَجِدّ لـه يَـتْبَعِ. أنت الذي تُحرّك كُلّ شيءٍ من حولك.. أنت الذي تفتح الطريق لكلّ الذين يأتون مِن خلفك. ● كُلّ هذه الصُور التي مرّت، و الصور التي ستأتي.. و كُلّ الصور التي رسمها الشعراء عِبر العصور، و كُلّ الآداب وكُلّ الفنون لا يُمكننا أن نُقايسها بتلك الّلوحة التي لا يستطيعُ رسّامٌ أن يرسمها و لا يستطيع شاعرٌ أن يتحدّث عنها حين ارتفعتْ صيحاتُ رقيّة في ذلك الّليل البهيم، و جاؤها بالطشت الذهبي الذي وضعوا فيه رأس الحُسين..!